اقترن اسمي روميو وجولييت بالنص الشكسبيري؛ الذي يروي قصة الحبيبين اللذين يقعان على مفترق طرق، نتيجة الخصومة العائلية بين الطرفين، والتي تحول دون تكليل العاطفة بالارتباط الرسمي والزواج. لكن في مسرحية “مش روميو وجولييت” التي تعرض على المسرح القومي -أعرق مسارح القاهرة والمبني في العام 1869م حسب المكتوب على جدرانه- لا توجد أي علاقة بين الأبطال الشكسبيريين وبين المطرب الكبير علي الحجار والفنانة رانيا فريد شوقي. فبينما تقوم علاقات الحب -بديهياً- بين أي بطلين بارزين في سن مقاربة غالباً تنتهي نهايات سعيدة، وتتهيأ كل الأحداث السابقة للحدث الأخير هذا، تماماً كما يوجد دور بطولة لممثل أو ممثلة لا يمكن ينتهي دوره/دورها إلا مع نهاية الدراما.
إذاً فالصورة المتخيلة عن “مش روميو وجولييت” لدى الجمهور وعلاقة الحب المتوقعة، كانت تتجه لإكمال خط الأقاويل بين زهرة ويوسف، يحيطهما كم كبير من الاستعراض الدال على التلصُّص الشديد على الخصوصيات في المجتمعات العربية التي تستطيع أن تغير أحوال ومصائر الأفراد لرضاها من عدمه! فتوصف زهرة من قبل زميلاتها المراقبات: “شوفوا البنت، وشوفوا جنانها. مش خجلانة ولا مدّارية. بنت جريئة وعينها قوية. أنا أصلاً مكسوفة عشانها!”. وهذه نقطة عصية على الشرح والفهم معاً؛ إذ حتى الفئة الواعية التي تردد المبادئ النظرية وتبدي وجهة نظرها في أي شيء، تبدل الآراء في حال اقتراب المسائل بشكل شخصي، حينها يكون المبرر حاضراً، والمسوّغات موجودة، والخصوصية أيضاً.
ومفهوم العقدة الملتوية Plot Twist حضر مبكراً في هذا العرض، ولم ينتظر حتى يستغرق موضوع الارتباط العاطفي ليحدث التغيير الجذري في النتيجة المتوقعة. المسألة -ببساطة- أن زهرة مسلمة، ويوسف مسيحي، والزواج بينهما غير قائم من الأساس بسبب الاختلاف الديني، والأهم أنهما يتعاملان بمنطق الأخوة المعتاد التي أورثتها العشرة الطويلة في منطقة شبرا التاريخية والعريقة في القاهرة، والتي يفخر عدد كبير من المبدعين المصريين وغير المصريين بانتمائهم إليها، عدا مسألة التعددية التي تحظى بها شبرا، والتي تجعل من مسألة التعايش من بديهيات العيش مع الآخر المختلف، دون أن يكون لأي طرف فضل في من جاء أولاً إلى المكان، كما يحصل أحياناً في المناطق المختلطة، بل إن الفخر بهذا التمازج جاء على لسان زهرة وهي تشرح علاقتها بيوسف في الأداء الغنائي: “في الأعياد دايماً نتشارك/ وتحيتنا سعيدة سعيدة/ ونردها بسعيدة مبارك/ كانت ساكنة قصادنا داليدا..” في إشارة للمطربة داليدا ذات الأصول الإيطالية التي كانت تسكن في شبرا، ومن هذا الكشف يأتي عنوان العرض أول مرة: بطلا العرض ليسا روميو وجولييت.
التمهيد الذي حصل في تسمية بطلي العرض بأسماء محايدة يمكن أن تسميها كل الطوائف، أخَّر قليلاً من لعبة الكشف أنهما مختلفان، لكنه كشفها سريعاً؛ إذ إنه الحدث الرئيسي الذي تستند عليه الأحداث القادمة، مثل قصة الحب بين ميرنا ومحمد الطلاب في مدرسة “الوحدة” الجامعة لكل الطوائف، كأنَّها الوطن الذي يحث على التعايش، لكن دون اختلاط الماء بالزيت! عبر توجيه العاطفة للأخوة والصداقة كما النموذج الأبرز والأكبر: زهرة ويوسف، لكن التأكيد يأتي مرة أخرى: إن الطالبين المحبين “مش روميو وجولييت”.
ويبدو العرض شديد الخصوصية على المستوى المحلي في مصر، وعلى خشبة المسرح القومي الذي يختار عروضه -غالباً- لقضايا تهم المواطن المصري بالدرجة الأولى. وفي “مش روميو وجولييت” عبر استخدام شبرا الجامعة لكل الأطياف، والتنوع الديني الموجود عموماً في مصر بين الأقباط والمسلمين خصوصاً، لكن على مستوى أكبر، يفتح هذا العرض الفكرة على مداها الأوسع؛ حيث تتكرر الثيمة في كل بلادنا، الأديان والمذاهب التي ترى الخطر الأكبر الذي يهدد المجتمع والقيم والأخلاق عبر زواج المختلفين! لكن تبقى القضية المناقشة مهمة وقابليتها على التطبيق واردة في أكثر من مكان، لتناولها قضية مكونين أساسيين في المجتمع.
وكما زاوج العرض بين التمثيل والغناء مناصفة، أعطى أهمية للكلمات التي صيغت ببساطة كحوار مستمر خلال معظم العرض، في مفردات راعت الجمهور الموجَّه له العرض، من ناحية المفردة السهلة والمعنى الموحد ذي الاتجاه الواحد ليصل إلى كل الفئات من متلقي العرض، بالإضافة إلى تضمين الحوارات المغناة الخاصة بطلبة مدرسة الوحدة، بمفردات “عصرية” مواكبة لما يقوله الطلبة مثل: فكسان/ إنت بتحوَّر يَلَا/ إحنا مالناش في الشمال/ الكلام اللي انت سامعه كله هبد، والكثير من الكلمات التي يستخدمها في المجمل الجيل صغير العمر المتساوق مع ما يراه من مفردات تعبر عن وقته. وهذه لفتة ذكية من أمين حداد الذي صاغ الكلمات الشعرية ببساطة بارعة.
واستعان العرض بفكرة الديكور عبر التقنيات الحديثة التي تتيح تغيير المكان والخلفيات، دون وجود قطع ديكور ثقيلة تعيق الانتقال من مشهد إلى آخر؛ حيث ساهمت هذه الانسيابية بشكل كبير في انضباط إيقاع العرض، واستمرارية الدراما دون توقف، خصوصاً مع وجود استعراضات الطلبة والطالبات في المدرسة، مقر كل الأحداث، فتظهر في بعض المشاهد صور بعض رموز التنوير المصرية، بوجود الناظر ذي الرؤية المتقدمة التي استوعبت الشجار بين الطلبة مختلفي الديانة، برغم تفوقهم وأخلاقهم التي يشهد لها الجميع في غير أوقات الفتنة! لذا كان اقتراحه المبتكر في الحل الذي يطفئ الشرارة الأولى: مسرحية! فيرد عليه الجميع: “مدرستنا قايدة نار، واحنا نعمل مسرحية؟!”. وللمرة الثالثة يتأكد فيها اسم العرض: مش روميو وجولييت، لرفض غالبية الطلبة التمثيل، وتفضيل التحزُّب الديني في المدرسة!
لكن، هل كان العرض مباشراً؟ إذا كانت حسابات الفن والمنطق تقول ذلك، باعتبار أن هناك مباشرة في الإشارة الصريحة إلى الاختلاف الديني بين الأديان، ليس فقط عبر الأسماء الواضحة: مايكل/ ميرنا/ علي/ نجاتي وغيرهم، بل بإشارة ناظر المدرسة عبر ملاحظته أن الشجار الرئيسي قائم بين مسيحي ومسلم، وفي المكاشفة الأولى حول طبيعة العلاقة بين زهرة ويوسف وارتباطهما المزعوم الذي لا يمكن أن ينتهي بزواج، وغيرها من القضايا المرتبطة بهذا الاختلاف، والمناقشة بدون التباس أو رمزية تحول لتأويل ما. لكن بعض القضايا يجوز لها أن تطرق المباشرة بأريحية، خاصة تلك الموجهة لجمهور عام، يتعامل مع المسرح والفنون -بشكل عام- على أنه النموذج المتبع، وهذا التوجيه يتم عبر دراما غير مملة، ونجوم محبوبين مقبولين، وعناصر فنية مميزة وجاذبة للمشاهدة العائلية، مثل دعم العرض وجهة النظر القائمة باستخدام مادة فيلمية تؤيد التعايش، وتظهر شبرا النموذج الذي يجمع الفئتين في البيوت المشتركة: المساجد والكنائس، وتشير إلى المشترَكات بينهم كمصريين؛ يجمعهم نفس المصير، ولا يفرق بينهم إلا شكل الدين، وليس جوهره.
رغم هذا، ورغم الفتن المذهبية والطائفية التي تقوم بين وقت وآخر، ليس في مصر وحسب، وقابليتها للتطبيق في أكثر من مكان لتناولها قضية مكونين أساسيين في المجتمع، وهنا تكمن أهمية القضية المناقشة، واستبعاد فكرة أنها مستهلكة أو مكررة، لكن يبقى الخير في أهل الخير دائماً، والفزعة “الإغاثة” التي قام بها مسلمون -مؤخراً- جنباً إلى جنب مع إخوتهم في الوطن، ضد ماركة معروفة لتضمين علامة الصليب في أحذيتها؛ إشارة ممتازة تعني الكثير من الاطمئنان، وعدم الرضا عن إهانة الأديان عند عموم الناس غير المؤدلجة، وأن التطرف من الجهتين، الذي يظهر بشكل مبالغ فيه في البديهيات، أمر غير أصيل في شعب عاش دائماً جنباً إلى جنب، ويمر بذات الصعوبات، ويتعرض لذات المحن الطائفية.
فكرة العمل والكتابة والإخراج لعصام السيد، وشارك في الكتابة محمد السوري، أما الصياغة الشعرية أو ما يطلق عليه الليبريتو Libretto وهو النص المكتوب للاستخدام في مثل هذا العمل الموسيقي، فقد استثمر وجود مطرب قدير وذي شعبية كبيرة لا يبدو أنها تخبو، رغم تواضع أدائه التمثيلي مقارنة بتاريخه الغنائي الكبير الذي يزيد مع اكتشاف الأجيال الجديدة للنوستالجيا التي يشعر بها من يكبرونهم عمرياً، عبر غناء الحجار بحفلاته تترات الدراما التي اشتهر بها منذ بداية الثمانينات، وهذا ليس قدحاً في فنان قدير، بقدر ما هو توصيف للصدق والمعايشة التي يلتزم بينهما، بينما تتطلب في الممثل المحترف مواصفات أخرى، أقلها القدرة على التلون. فالحجار هو الحجار الذي يصدح بـ”مسألة مبدأ” أو “عارفة”، حتى لو لبس عباءة المدرس في العرض. ويبقى عرض “مش روميو وجولييت” يدعم الاختلاف بكل أشكاله، ويدعو للمحبة الإنسانية الخالصة التي تؤكد على بقاء “الابتهالات جنب الترنيمة”.
- أغنية للفنانة وردة، من كلمات: مرسي عزيز، وألحان: محمد عبدالوهاب.