توقفت إشارة المرور فعبثتُ بمشغل الموسيقى ليصدح منه نغم أصبح شاغل الدنيا في السنوات الأخيرة: “هي تحب الغازولين… أعطني المزيد من الغازولين”. هذا هو المقطع الوحيد الذي كان يترنم به المغني من كلمات الأغنية الأصلية باللغة الإسبانية، فالأغنية كانت باللغة التركية ولم أفهم بقية مقاطعها، لكني أفهم تماماً هذا الرتم الثائر في موسيقاها وحرارة لحنها.. إنه “الريغيتيون” أسطورة موسيقى عصرنا الحالي.
تتفجر كلمات الأغنية التركية ويتردد المقطع الإسباني الوحيد فيها: “هي تحب الغازولين… أعطيني المزيد من الغازولين”، فأتساءل هل بقيت هناك لغة من اللغات الحية في الأرض لم تترجم إليها هذه الأغنية ولم تصدح بها موسيقى الريغيتيون؟
ولد “الريغيتيون” في دولة بنما في أواخر ثمانينات القرن الماضي مع الإجتياح الأمريكي لقناة بنما التي كان يعمل في محيطها المهاجرون من جمهورية جامايكا في البيع والشراء وتقديم الخدمات لطواقم السفن البحرية في رحلة عبورها للقناة.
بعد الإجتياح الأمريكي والحرب التي دارت في تلك الفترة، فقد هؤلاء المهاجرون محلاتهم التجارية وعانت أعمالهم من الركود في الخدمات البحرية، فغادروا محيط القناة الى أعماق المدن البنامية، حيث أصبحوا يعانون من الفقر والبطالة وقلة الحيلة أمام متطلبات الحياة اليومية فكتبوا معاناتهم في أغنيات ثم سجلوها في أشرطة كاسيت غير رسمية تمّ تنسيق موسيقاها وإيقاعها بصورة إرتجالية في الأحياء العشوائية التي تشكلت من وجودهم الطارئ في أطراف المدن البنامية.
باع المهاجرون هذه الأشرطة الى سائقي باصات النقل العام بأثمان زهيدة بالكاد تكفي لشراء خبز اليوم، لكن معاناتهم المغناة سرعان ما إنتشرت في كل أنحاء بنما وهي تصدح من مسجلات باصات النقل العام ذات الصوت الصارخ تخبر عنهم وعن معاناتهم و مع معاناتهم ولدت موسيقى “الريغيتيون” في دولة بنما.
جاءت تسمية الرغيتيون من لفظ راغاتيار وهي كلمة عامية تعني “عدّ أو حساب” على الأرجح لأن الإيقاع فيها يتصاعد كمن يعد “1..2..3” بشكل صاخب سريع في المقاطع الأولى ثم تهدأ وتيرته في المقاطع التالية فتبدو أشبه بالعد التنازلي “3..2..1” ويست، وإنتقل الريغيتيون في أوائل التسعينيات الى “بورتريكو” الجزيرة التي يطلق عليها جيرانها إسم “جزيرة السحر”، ومنها إنطلقت موسيقاه واجتاحت الدنيا.
لم يكن صدفة أن تجد موسيقى الريغيتيون أرضاً خصبة تزهر فيها في بورتريكو، فهذه الجزيرة ما تزال حائرة كيف تصف نفسها، فهي ليست دولة مستقلة ولا هي بجزء كامل الحقوق من دولة ما؛ إدارياً تعتبرها أمريكا جزءاً غير ملتصق من أراضيها، يحمل مواطنوها الجواز الأمريكي ولديهم جنسية مزدوجة بورتريكية وأمريكية، يدفعون الضرائب للحكومة الأمريكية لكنهم لا يملكون حق التصويت لإختيار الرئيس الأمريكي في الإنتخابات.
يعيش نصف شعبها خارج أراضيها والنصف الثاني ينقسم إلى ربعين؛ أحدهما يعيش تحت خط الفقر في أحياء أسفل المنتجعات، والفنادق السياحية التي يمتلكها الربع الثاني من أغنياء بورت ريكو الذين لهم أيادٍ طائلة في الحكومة المحلية.
في تلك الأحياء السفلية ازدهرت موسيقى الريغيتيون لتصدح كلماتها بثورة الشباب من سكّانها فكانت كلماتهم الجريئة التي تمجد حياة الليل وبطولة الفتوات ونشوة المخدرات والأوصاف الحسية لليال الحب وتحدي السلطة والثورة على السلطان.. وإن كان بدأ تسجيل الريغيتيون في بنما بإمكانيات متواضعة، فإنه في بورت ريكو وفي أحياءها الجانبية وجد أحدث الأجهزة التسجيلية والمحسنات الصوتية لينطلق نحو الدنيا، بكلمات أغانيه التي فيها الكثير من الجمل الوضيعة والمفردات الصارخة في جرأتها وتحديّها لقيم المجتمع المخملي.
بداية قوبلت هذه الموسيقى بحرب شعواء من الحكومة في بورت ريكو، ومن أثريائها المنتفعين منها، فسجن من عرف عنه التغني بها، وأغلقت الأستديوهات التي قامت بتسجيلها، لكن الثورة لا يمكن إخمادها ولا إسكات صوتها. سرعان ما انتشر الريغيتيون بنسخته البورتريكية وكلماتها الجريئة المتحديّة، وذاع صيت إستديوهاتها التسجلية بين جيرانها اللاتنيين وفي إسبانيا، فأصبح الجاذب الأول لزيارة بورتريكو والسياحة الفنية فيها.
أمام هذه الموجة من الشهرة التي إجتاحت بها أغنيات الريغيتيون العالم، والتدفق الكبير للسياح نحو الجزيرة والمال الذي تدفق معهم، لم يكن أمام الحكومة خيار سوى أن تغضّ الطرف عن الثورة الصارخة في كلماتها المتحدية، وتتقبل الطبقة المخملية الكلمات البذيئة التي تتغنى بها، وبفكّ قيد الرقابة على أغنية الريغيتيون أصبحت الرمز الأول لجزيرة السحر بورتريكو وأكثر ما عرفت به ونال مغنوها شهرة فاقت حدود الأرض، فإشتهرت بالحياة الليلية الصاخبة وحفلات الشارع الراقصة التي أصبح الريغيتيون بطلها الأول، يجتمع الشباب في حلقات تضاء بأنوار الدراجات النارية حول مغني الريغيتيون ويشكلون موسيقاه مم تصفيق الأيادي و أبواق الدراجات.
حملت أغنية الريغيتيون بجانب ثورتها وجرأتها وصفاً تفصيلياً لشوارع بورت ريكو وأشهر حاناتها الليلية ومقاهيها وطرقات السفر فيها وأكلاتها وتمجيداً لأبرز الشخصيات من شبابها الذين وضعوا القوانين التي تحكم الحياة في الشوارع الخلفية والأحياء السفلية، فبات جزء من سحر جزيرة السحر، بورت ريكو، أن تسير في شوارعها وتسافر في طرقاتها وأنت ترى وتلمس كلمات أغنيات الريغيتون وقد تجسدت أمامك في مشاهد حيّة وأطعمة ومذاقات حقيقية.
توقفت النسخة التركية لأغنية “الغازولين”، والتي لم أفهم منها غير مطلعها عن الصدوح من مشغل الموسيقى. أصبحت الإشارة خضراء وإنفضّ زحام الشارع فكان أول شئ أقوم به فور عودتي إلى البيت أن ترجمت كلمات الأغنية الأصلية بلغتها الإسبانية، وسأختار لكم من خاتمتها هذه الأبيات، حين تتحول الأغنية إلى تحدٍّ وثورة غضب سافرة ضد المجتمع والسلطة:
إلى الأقلية
للذين هم أكثر وضاعة من الصيادين
للنساء اللائي لا تنطفىْ محركاتهن
أنا وأنت بيننا حساب قديم
أنت مدين لي بشئ تعرفه تماماً
معي قضيتك خاسرة، أنا لا أقدّم مبررات لأحد