هل الفتنة صدفة؟

0
12

عن قضية الأنوف المستمرة

“هناك مكان للجميع في العالم.. أتفهمون؟”

كتبت المؤلفة المكسيكية “ماروشا بيلالتا” هذه الجملة على لسان “ليو” الذي آمن بهذا المتسع دون تحزب، لكنه دفع حياته مقابل هذه القناعة التي يراها المتعصبون من الطرفين مياعة لا تتناسب مع الوضع، فإن كنت هذا الشخص، توجب عليك تحديد موقفك بوضوح مع الإلمام بالمصير المنتظر: الموت أو قيادة الآخرين المنصاعين بلا محاذير!

وشخصية ليو في نص “قضية أنوف” ليست فريدة لأن هناك الكثيرين غيره، لكن ظهورهم صعب أو كلمتهم غير مرئية، مقابل المنقادين إلى الكراهية التي يرون فيها متنفسًا جيدًا عن مشاعر سلبية أخرى، فهي منطقة راحة مقارنة بتعب التفكير في منافذ أو حلول تعيد ترتيب الأمور المرتبكة. ولأن النص حيوي وذو قضية حاضرة رغم مرور وقت على كتابته، إلا أن أحداثه تمكن أي مخرج من تحميله النسخة التي تناسب مجتمع تقديمه، لذلك توجد نسخ عربية عدة لقضية الأنوف هذه.

قام المخرج عبد الله المهيري باقتباس فكرة النص وإعادة كتابته بنفس محلي وباللهجة الإماراتية وبمفرداتها المحلية، وعنونه بـ”دق خشوم” وهو تعبير شعبي في منطقة الخليج وبعض الدول العربية، يحمل أكثر من معنى منها: التعبير عن المهانة أو للتقليل من شأن أحد ما، الحصول على أمر ما بإصرار وعزيمة أو في بعض الحالات الاعتذار عن الخطأ، وأيا كانت القصدية فكل المعاني المذكورة تنطبق على عرض المهيري، ومن المهم ذكر أن معظم المخرجين الذين قاموا بتقديم هذا العرض لم يبتعدوا كثيرًا عن هذه التسميات كما في النسخة المصرية للمخرج إسلام إمام الذي أطلق عليها “اترك أنفي من فضلك”، بالإضافة إلى هذا اعتبارات مكانة الأنف عند العرب من حيث السمو والدنو باعتباره العلامة الشفهية التي يُستدل بها على مكانة الشخص.

يشير الحدث في المسرحية إلى تفاهة الخلافات، وكما قيل معظم النار من مستصغر الشرر الذي ينطلق من مزحة عابرة بين صديقين مقربين على شكل الأنوف الطويلة والقصيرة، سرعان ما كبرت واشتعلت وتهشمت، وحزبت الجماعة التي انقادت إلى من يشبهها تلقائيًّا دون النظر في تفاصيل قد تساعد في رأب الصدع -ربما- إلى مع أو ضد؛ ليعطي فسحة للمتلقي عن صدق لطف الكلام المسبق بينهما، وفيما إن كان هذا حقيقيًّا وصادقًا أو غير ذلك، خاصة مع رغبة الآباء في انهاء النسب القائم على زواج الأبناء، وجدير بالإشارة هنا الصورة البصرية التي دعت كل طرف إلى التشكل مع جماعته في هارموني مجازي على شكل مايسترو يقود فرقته، لكن الفرق هنا شاسع بين الموسيقى والنشاز. فالنشاز هنا تناحر لفظي عن عقدة استحقاق غير معروف مصدرها، غير الاختلاف الشكلي بين أنف قصير وطويل والتي تفضي إلى تناحر حقيقي حول اللاشئ فعلا.

وحسنًا فعل المخرج الذي أعاد صياغة فكرة المسرحية الأصلية، في تسمية الشخصيات بما يجنبها الانتماء لمكان بعينه، مثل تسنيم بنت نسيم أو عوف بن جوف، والشخصيات الأخرى التي اكتسبت اسمها من وظيفتها أو صفتها كنوع من التجريد، وهو ينم عن فهم لب وفحوى الفكرة التي أعطاها نفحة محلية عبر أغاني البحر وأغانٍ أخرى رددتها الشخصيات، دون أن تكون إشارة لمكان بعينه، في حين أنه ألغى مؤشر مهم في شخصية الطفلين اللذين يتنابزان بـ”الضفدعة” و “الدودة”، متأسين بالكبار الذين سبقوهم وأيضًا للدلالة على اعتبارهما انعكاس لكل المجتمع وسهولة تشربه للفتن جالبة الكوارث، لكنه استعاض عنها في الأخير بشكل آخر لتجسيد استمرارية الفكرة.

قامت العلاقات الأساسية بين الشخصيات الأربع الرئيسة: الأبوين والزوجين، لكن هذا لا يعني أنهم استفردوا بالحدث الذي كان جماعيّا بامتياز، فكانت معظم المشاهد تضم جميع الممثلين الذين بدوا منسجمين كفريق عمل واحد، رغم أنهم لم يستطيعوا إضحاك المتفرجين في حدث يركن للكوميديا أصلا، وربما هو أمر عائد لطريقة التقطيع في الكلام باللهجة المحلية بحيث يصعب إيصال المعنى والأداء في الإلقاء الذي لا يصاحبه إحساس كلي بمضمون الشخصية، أو كان يتطلب المزيد من التدريبات لإبراز جمل كتبت في نص المهيري بشكل جيد. أيضًا رغم اعتناء النص الأصلي بكل التفاصيل التي تعين المخرج على تنفيذ العناصر المسرحية المرئية، إلا أن الجهد المبذول في الإضاءة في قراءة جيدة لتغيير الحالات كان مشهودًا رغم المبالغة غير الحميدة فيه بعض الأوقات، كذلك ينطبق الأمر على الديكور البسيط ذي الاستخدام العملي والتجسيد والقصد هنا على القطع التي على الخشبة دون تلك المعلقة دون رمزية واضحة، والأزياء التي وفق العرض في تحييدها؛ لذلك دائمًا ما نؤكد على ضرورة حضور الدراماتورج في حال إصرار المخرج على القيام بدوره والتأليف والسينوغرافيا كما في هذا العرض.

ومقاربة للواقع؛ لم يكتف النص بتوضيح كيفية الاشتعال الأول وحسب، بل أظهر المستفيدين من الفتنة وتأجيجها بين الطرفين، الشاعر الذي يعمل حفار قبور في وقت آخر، هو “مهندس” العداوة الذي يهتف بلا مواربة مثل بائع متجول: أبيع أذى/أبيع كراهية/ أبيع حقد/ أبيع فتنة دينية/ أبيع عدم تسامح/ وغيرها من مفردات صريحة ومع ذلك الناس تقبل على بضاعته! هذه النماذج موجودة في مواقع رسمية لها صفتها وسلطتها التي يستجيب لها كثر بحكم التبعية وليس بالضرورة الاقتناع. وكم من “مهندسين” ضيعت شعوبا وأمم.

وإذا كانت ماروشا قد أنهت القضية الأولى بحلول بسيطة جاءت بعد الخلاف الذي أنهك الجميع، لكنه اعتبر جزء من العملية التي يجب أن تأخذ وقتها بالكامل: مشاعر مودة مستقرة/ مزحة تقال فتتحول إلى خلاف هزيل يكبر حتى يتفاقم ويصل أقصاه لينفجر ويعم الهدوء مرة أخرى، دورة كاملة معتمدة على فكرة الاستمرارية، لكن هذا لا يمنع أن يشعل شرر آخر على سبب تافه آخر، وهو الذي أشارت له المؤلفة عبر خلاف قام بين طوال وقصار القامة بنفس سبب الأنوف الذي جر إلى هلاك كبير.

فيما آثر المخرج المهيري ألا ينهي “دق خشوم” بطريقة مأساوية على نهج ماروشا، وأرتأى أن يلعب بالدمى التي تقتل مكان الحبيبين، حتى يشعل الآخرين بالذنب الذي ارتكبوه، ويمكن القول إن المخرج قد فهم الدلالة الخاصة بـ”قضية أنوف” ولم ينسق لخط الكوميديا الظاهري في حين أن باطنها النقد والتركيز على الحماقات والتفاهة والكبر قد يجرف أي عشرة طيبة ومودة، وحتى مع نجاة الحبيبين وهروبهما من هذا المجتمع المبتلى بالحماقات، لم ينج طفلهما الوليد في إشارة إلى استمرارية آفة هذا المجتمع واستمرارية قضية الأنوف.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا