كفى!

0
3

كيف لليبرالية الجديدة أن تدمّر البشر والطبيعة؟

سنتحدث في هذا المقال عن أحد الكتب الحديثة المهمة، الموسوم بعنوان صارخ: “كفى! كيف لليبرالية الجديدة أن تدّمر البشر والطبيعة” تناقش فيه الباحثة النرويجية “لين ستالزبيرغ” موضوع الليبرالية الجديدة وماتحدثه من أثر على حياة البشرعبر التغلغل في أدقّ تفاصيل الحياة اليومية، وكيف أصبحت الشركات تسيطر على الكثير من مقدرات الشعوب وتستحوذ على قرارات الدول التي يُشترَط أن تعمل وفق مبدأ السوق الحر، السوق فوق كل شيء. وهو من الكتب الفكرية/الإجتماعية التي تهتم بالانسان كثيمة أساسية وتطرح موضوعاً مصيرياً مهماً بأسلوب سهل، وضِعَ بطريقة يمكن أن يفهمها الجميع بهدف إيصال معلومة عن الفكر السائد الذي يسيطر على العالم لأكبر عدد ممكن ونشر الوعي به. ويتتبع الكتاب سيرة الرأسمالية كنظام سياسـ/اقتصادي والتحوّل الجديد الذي طرأ عليها في نسختها الحديثة التي تعرف بالليبرالية الجديدة.في مقدّمة الكتاب تحاول الكاتبة تقديم فكرة عامة عن الليبرالية الجديدة، ثم تأتي على تفكيك الموضوع تدريجياً عبر فصول الكتاب، وتنطلق من فكرة شائعةٍ في عصرنا وهي أن مدرب فن العيش life coaching عنده المفاتيح السحرية وبإمكانه أن يقدّم حلولاً لكل المشاكل الحياتية للأفراد وفق مايرضي السوق ويزيد من مداخيل جيبه، حتى أن المكتبات امتلأت رفوفها بالكتب من هذا اللون التي توصف بأنها الأكثر مبيعاً ويروَّج لها وتعرض في الواجهة، منها على سبيل المثال كتبٌ تقدم مقترحات عن مشكلة ضيق الوقت، وكيفية التخلص من التوتر اليومي، وعن زيادة الكفاءة في العمل، وكيف تصبح أباً أو أماً أو حبيباً أفضل، وتقدم دروساً عن كيف يمكننا الحصول على إعجابات أكثر على وسائل التواصل، وكيف يمكن لشخص استهلاكي أن ينقذ الطبيعة من الدمار…الخ، وحتى لو لم تستطع قراءة هذه الكتب فستجد العديد من المحاضرات على موقع اليوتيوب وستجد الآلاف ممن يتابعونها ويتفاعلون معها، كما يتابعون الأشخاص الذين يروجون للألعاب. تضعك هذه المحاضرات أمام مأزقِ الأمر الواقع وأنك وحدك سيد قراراتك، وعليك أن تكون أفضل دائماً، لكن أيّاً من هذه الكتب لا يُعلمّك التفكير بشكل نقدي تجاه سياسات المنظومة العالمية، السياسات التي هي سبب المشكلات التي تتحدث عنها العناوين المشار إليها في تلك الكتب والمحاضرات، كتُبٌ الغاية منها أن تدفعنا نحو التأقلم والاستمرار في تلبية متطلبات السوق.تذكُر ستالزبيرغ في المقدمة أيضاً أن عبارة الليبرالية الجديدة تشير إلى: “النظام الاقتصادي الذي أنشأته رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر من جهة، والرئيس الأمريكي رونالد ريجان من جهة أخرى فكثيرٌ من الناس يطلقون مسمى “أصولية السوق” أو “ليبرالية السوق” على هذا النظام وينظرون إلى الليبرالية الجديدة باعتبارها نظاماً سياسياً اقتصاديًا تطبِّق من خلاله الدولة نظام “فكر السوق” على معظم مجالات الحياة، بما في ذلك خدمات الرعاية الاجتماعية مثل رياض الأطفال ودور رعاية المسنين. وهناك من يربطون مصطلح الليبرالية الجديدة بمصطلح الاستهلاك، وأولئك الذين يستغلون الإعلانات واللافتات الموجودة في كلّ مكان ويفكرون في كيفية استغلال مخاوفنا وعدم ثقتنا في أنفسنا، والاستفادة من كل ذلك في جني المال. يمكننا أن نرى أثر ذلك حينما نجد أنفسنا ننساق وراء تلك الفتن وننفق الأموال لكي نغيّر من شكلنا وشكل أجسادنا.”اللنيوليبرالية السياسـ/اقتصادية هي التي تحكم العالم اليوم عبر ممثلتها الولايات المتحدة التي تحتكر السوق، إنها إيديولوجيا تعطي الحرية الكاملة للسوق، تستقي مفهومها الأساسي من الرأسمالية التي تنبني على فرضيةٍ مفادها أنه كلما ارتفعت أرباح القطاع الخاص فإن ذلك سيعود بالفائدة والرخاء على الجميع، وبالتالي ترى أن من واجب الدولة تيسير الأمور التي تجعل الأثرياء أكثر ثراءً! على أمل أن الثراء إذا تضاعف بتضاعف رأس المال سيعود بالأثر الإيجابي على الطبقاء الأقل ثراءً والطبقات الفقيرة، وأن المنافسة ستزيد ممايعزز الإبداع والإبتكار للجميع الى أن يعم الرخاء والاستقرار.في البداية شَعَرَ كارل ماركس بإيجابيةٍ تجاه الفكرة القائمة على التنافس العادل بين الجميع الذي سيساهم، بدوره، في الإبداع والرفاه والمساواة كما كانت تدّعي الرأسمالية، ولكن عندما رأى مستوى الجشع عند الرأسماليين الذين بدأوا باحتكار وسائل الانتاج، وازدياد التفاوت بين طبقات المجتمع وعدم المساواة بحيث إن الأثرياء أصبحوا أكثر ثراءً وأكثر صلاحيات وحماية قانونية والفقراء أكثر فقراً وتهميشاً، أدرك ماركس مبكراً الأسس الحقيقية التي تقوم عليها الرأسمالية، وسعى الى تحليل ونقد إيديولوجيا رأس المال (فائض القيمة) وكشف عن الفروقات الجوهرية التي تحدِثها الرأسمالية على النسيج الإجتماعي ودورها في ازدياد التفاوت الطبيقي الذي هو من صميم تركيبتها البنيوية، ثم مدى استغلاليتها وانتهاكها لحقوق العمّال.نرى اليوم بشكل واضح كيف تطوّرت الرأسمالية ووصلت الى مستوى الليبرالية الجديدة، التي تعمل على الطريقة المكيافيللية؛ الدولة في خدمة السوق فإذا شاءت السوق الأمريكية مثلاً إشعال حربٍ في مكان ما لإضعافه اقتصادياً وسياسياً حتى يسهل استغلاله وتحويله الى مستهلك للسلع الأمريكية فإن الدولة ستنفّذ هذا النوع من الحروب حتى وإن كان غالبية الشعب لا يوافق، تختفي الديموقراطية أمام إرادة السوق وسياسة الهيمنة فتكون مجردَ وسيلةٍ للإلهاء.وما يحدث اليوم في غزّة جزء لايتجزء من فرض عقيدة السوق التي يطمح شياطينها للهيمنة المطلقة على العالم سياساً واقتصادياً بل وفكرياً. ومع تنصيب التاجر الجشع رئيساً للولايات المتحدة، الملياردير الذي تشرَّبَ عقيدة السوق الحر وثقافة الليبرالية الجديدة، من ذات المنطلق العقائدي يريد تحويل غزّة الى منتجع سياحي يدّر عليه وعلى أقرانه الأموال الكثيرة ضارباً عرض الحائط كل القيم الأخلاقية والأعراف الإنسانية التي تترتب عليها فكرة إجرامية من هذا النوع من إبادة السكان المحليين وتهجير من تبقّى منهم. وكما شرّعوا إبادة الغابات وتدمير الطبيعة ليتسنى للسوق أن يمارس عمله بحرِّية دون قيود أو معوقات هاهم يشرِّعون إبادة الإنسان والمُدُن تحت نفس الذرائع!نعم قد نعيش حياةَ رغدٍ من الناحية المادية فيما يخصّ الخدمات والرفاهية والرعاية إلا أن نظام الليبرالية الجديدة يفاقم حالة اللامساواة فإن الحياة الرغيدة التي يعيشها الكثيرون غالباً ماتكون على حساب معاناة أناسٍ أكثر في بلاد أخرى وعلى حساب كوكبنا الذي لايسعه احتمال نمط حياتنا اليوم.نحن نشهدُ مرحلةَ هيمنةِ الإيديولوجيا اللنيوليبرالية حتى على كامل أسلوب حياتنا اليومية وقد لا نشعر بها لأننا الآن نتحرك داخلها. من مظاهرها: ازياد حدّة المنافسة على جميع المستويات ولِما لذلك من أثرٍ على الحالة النفسية والعلاقات الشخصية والإجتماعية للأفراد. وهيمنة الشركات التجارية على حياة الناس وإعطاء الصلاحيات لصاحب العمل على حساب العمال، خصوصاً مع تراجع الدور الفاعل والحقيقي لنقابات العمال عالمياً. واعتبار قيمة الإنسان من خلال قدّرته على الإستهلاك والتملك؛ قد يؤدي ذلك الى غياب المعنى وغياب الإهتمام بالقضايا الإنسانية والأخلاقية الصغرى ناهيك عن الكبرى، وكأنّ مهمة الإنسان الوحيدة في هذه الحياة هي التسويق والترويج لنفسه الى أن صار الإنسان هو الموضوع والشيء معاً!. واستقطاع المساحات الزراعية وتدمير البيئة لأجل الإستثمارات الإقتصادية وإنشاء مصانع تنتج مواد كيميائية وتنشر الأبخرة الضارة في الجو… كل ذلك وأكثر مما نعيشه اليوم إثر تعاظم قوى السوق وتطبيع أخلاقيات السوق على الجميع حتى صارت السائد العام الذي يصعب جداً انتقاده وتفكيكه.وفي هذه الثقافة السائدة يتمّ وضع اللوم في الاخفاق أو النجاح على الفرد وحده بحيث يوهَمُ بأنه هو المسؤول الوحيد عن اختياراته، والواقع ليس كذلك إذ أن المنظومة السياسـ/اقتصادية هي التي تحدد للفرد اختياراته عبر الدعاية والموضة و”الترند”…الخ، تضعه أمام اختياراتٍ مسبقةٍ حتى فرضَت عليه مستوى عالٍ من المنافسة المستمرة، حِدّة المنافسة وازدياد القلق والتوتر أدّى الى خلق حالاتٍ مرضية كالإكتئاب والإرهاق النفسي والعقلي، والذي يتم معالجته عبر عقاقير ومصحات تجارية تحرك بدورها سوق تجارة العقاقير الطبية متعاظمة الأرباح، أضف الى ذلك مفهوم النجاح الذي انحصر تماماً في البُعد المادي حيث أصبح التعريف الوحيد للناجح بأنه الشخص الذي يراكم أكبر عدد ممكن من الأموال والمناصب والممتلكات مع أن هذا ليس شرطاً ضرورياً للمفهوم الحقيقي للنجاحلا أحد ينكر أن البشرية وصلت إلى مستوى من الرفاه والتطور الصناعي/التقني غير مسبوق، المنتجات الإستهلاكية التي تريح البشر في كل شيء تقريباً كثيرةٌ جداً، هذا بحد ذاته خلقَ مشكلةً جعلت من الإنسان كائناً استهلاكياً يعتمد اعتماداً كليّاً على المنتوجات الاستهلاكية من أصغرها شأناً إلى أكبرها، كائنٌ لايمكنه أن يعيش من دون هذه الأشياء، وهذه الأشياء تأتي من مصانع تستغل الإنسان في كثير من الأحيان استغلالاً تعسفياً بل إنها في بعض الدول تستغل الحاجة والعوز عند الفقراء لتجعل منهم عمّالاً يقضون نهارهم باليل في صنع أشياء تعود عليهم بمالٍ زهيدٍ جداً مقابل ما يتحصل عليه صاحب رأس المال من تراكمٍ ضخمٍ للأموال، خذ مثلاً تجارة النسيج في الدول الفقيرة مثل الهند وبغلادش وغيرها، بحيث تعمل الأسر الفقيرة في صناعة النسيج لسنوات طويلة ولايزدادون إلا فقراً والتاجر ثراءً. والطامة الكبرى أن معظم الشركات العالمية تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في دعم أبشع إبادة جماعية حاصلة في غزّة، وقد يعود سبب استصعاب شريحة ليست قليلة من المجتمع لفكرة المقاطعة التجارية إلى اعتمادهم المتفاقم وانغماسهم في الثقافة الاستهلاكية، ثقافة “البراند”، رغم توفر البديل المحلي للكثير من المنتوجات. إذن فالليبرالية الجديدة نظام يدمّر الحياة العملية للعمال بحيث يعطي السلطة الكاملة لصاحب العمل ويحتكر صناعات بعينها ويروج لأحلام وصور جميلة خيالية لذلك المستقبل الذي سيجعل العمال أثرياء والبلدان المدمرة مزدهرة وكل ذلك بهدف تسريع عملية الإنتاج وتعاظم الإمبريالية. المشكلة كما ترى آلين مؤلفة الكتاب تكمن في أننا تقبلنا الليبرالية الجديدة وابتلعنا مرارتها لأنها ارتبطت بالحرية، بحيث أصبح الحديث عن الحرية مرادفٌ للحرية في الإستهلاك والتملك عبر التمويل والبنوك. استقت الليبرالية الجديدة تصوراتها من آدم سميث المنظّر للرأسمالية إذ أن الحرية عنده تتمثل في تمكين الفرد من حرية الإختيار واتخاذ القرار من دون تدخل الدولة “ومن ثم أصبح السوق بالنسبة لسميث دليلاً على المجتمع الحر، فهذه الصلة الوثيقة بين السوق والحرية هي سبب من الأسباب التي جعلتنا نقبل ونتأقلم مع كل السلبيات التي تنتج عن نظام السوق الحر.” وعن تغلغل الليبرالية الجديدة في كل مناحي الحياة وتداعياته تقول ستالزبيرغ أيضاً: “ونرى كذلك انعكاساً لليبرالية الجديدة في قطاع الصحة عندما يتعامل موظفو قطاع الصحة مع المرضى وفقًا للقيمة المادية التي يقدّمها المريض، أو عندما تُترَك خدمات الصحة للقطاع الخاص، الذي همّه الرئيس هو جني المال. فعندما يتحوّل الفرد من كونه “مريضاً” إلى “مستهلك” فهذه في حد ذاتها إشارة إلى أن سياسة الليبرالية الجديدة قد تغلغلت داخل قطاع خدمات الرعاية الاجتماعية، وخلقت مفاهيم وعبارات جديدة وأثرت في نظرتنا لقطاع الرعاية الاجتماعية ونظرتنا بعضنا لبعض. في ذات الوقت الذي يتمّ فيه الترويج لحرية الإختيار والتفكير بشكل مستقل فردي، نعيش حالةً نمطية غير مسبوقة من ناحية الاختيارات الشخصية والشكل والمظهر الخارجي بل وحتى الفكر والتصورات والأحلام.باتت طريقة سير الكثير من السياسات الإمبريالية اليوم من اعتداءات ومحاولة للسيطرة على مقدّرات الشعوب وعلى الموارد الطبيعية بالخداع وإن لم يكن فالحرب، من الأشياء الشائعة. تتعامل الولايات المتحدة مع العالم وفق أخلاقيات السوق، الهدف هو المصلحة والربح وتحقيق أعلى قيمة ربحية ممكنة مهما يكن. تقول لين ستالزبيرغ: “كفى!”، وتقول لا بديل أمام البشرية سوى استبدال الليبرالية الجديدة والرأسمالية بأنظمة تحفظ للإنسان إنسانيته وعمق جوهرهِ وترى أن ذلك ممكن، ولكنه يحتاج إلى وقت طويل ورفع وعي الشعوب، وأن الحلول الترقيعية مثل الرجوع إلى الرأسمالية القديمة غير مجدية لأن البنى الإيديولوجية لكلا الفكرتين تقوم على حريةِ الاستغلال!

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا