اللباس في السّرديات

0
71

كنتُ أعرف أن الملابس تحمل سرًّا أخطر من  كونها مجرد ملابس، عرفت ذلك قبل أن أقرأ مقولة فرجينيا وولف الرّائعة: “الملابس لها وظيفة أكثر أهمية من مجرّد إبقائنا دافئين. لقد غيرت منظورنا للعالم ونظرتنا إليه” وردت عبارتها هذه في كتابها “أورلاندو”، أمّا استنتاجاتي حول خطورتها فقد بدأت باكرا، منذ طفولتي، حين تعلّمت أن الحفاظ على هندامي النظيف والمرتّب يعطي صورة جيدة عنّي.

في الغالب اللباس هو بطاقة هويتك التي يراها الناس ويقيّمونك من خلالها، حتى قبل أن يعرفوا من تكون. وهذا لا يعني أنك بلباس جميل وأنيق قد تجذب من يحترمك، فقد تكون الفخ الذي يجذب النصابين واللصوص إليك. ولكنّها عموما قد ترفعك إلى فوق، وقد تهوي بك إلى تحت.

أمّا صاحبة هذه المقولة ورغم إدراكها لأهمية الملابس  فقد  اختارت أخطر الملابس على الإطلاق لإغراق نفسها،  ارتدت معطفا ذا جيوب كبيرة، ملأتها بالحجارة ومشت نحو حتفها. تاركة نظرية غريبة لم تتفوّه بها، ولم تكتبها قط، وهي أن الموتى قد يحتاجون لملابس مع جيوب، كاستثناء إن كانت رحلتهم الأخيرة نحو أعماق بحيرة أو بحر.

من أين جاءتها تلك الفكرة الفريدة للذهاب إلى الموت بمعطف؟ هل كانت تعتقد أن الموت غرقا أكثر لطفا من موت بالمشنقة ؟ أم أنّ  الأمر ابتكار كباقي الأفكار التي كتبتها؟

وحدهم الأحياء يستعملون جيوب أثوابهم،  فقد سهّلت عليهم الكثير من أمور الحياة، كونها تشبه  حقائب صغيرة يحملون فيها حاجياتهم دون الشعور بثقلها. لكن أن تكون أداة للموت، فهذا ما يمكن اعتباره فكرة قمة في الذكاء.

أمّا ما يفوقها دهاء فهي محاولة الإغتيال الفاشلة التي تعرّض لها سليمان القانوني في شبابه من طرف والده سليم الأول. نتذكر جميعا العباءة المسمومة التي أرسلها السلطان لإبنه سليمان بهدف قتله، لولا فطنة والدته وإنقاذها له. وإن لم نقرأ عن هذه الحادثة التاريخية الصادمة، فقد مرّت علينا كمشهد سوريالي صعب التصديق في إحدى الحلقات التلفزيونية من مسلسل “حريم السلطان”.

وعلى كل لم تخلُ الدراما خاصة البوليسية  من توظيف بعض قطع اللباس كأدوات للقتل، مثل استعمال ربطة العنق أو الحزام لخنق الضحية، مع أنها قطع قد تكون ثمينة جدا، يبالغ الأثرياء في انتقائها لإتمام أناقتهم. لكن مع حذر في اختيار لونها، إذ لا يجوز ارتداء ربطة عنق بألوان “فرِحة” في مأتم على سبيل المثال، والعكس صحيح تماما.

هذه التفاصيل التي نتعلّمها في الحياة مع التقدم في العمر والتجارب، نجدها تمثل دعامة مهمة في السرد الروائي، فاللباس يعرّف بالشخصية في النص تماما كما يفعل على المسرح. فهي ليست جزءا من جمالية الشخصيات فقط، بل تكشف عن العلاقة الوطيدة بين الملابس والحقائق الإجتماعية التي تحملها في طياتها.

الكاتب الأمريكي مارك توين قال ذات مرة: “الملابس تشكّل المرء. الأشخاص العراة لديهم تأثير ضئيل أو معدوم على المجتمع”.

في النصوص كما في الحياة أيضا ارتداء الملابس وخلعها إجراء يسبق فعلا ما. كل أفعالنا مرتبطة بأنواع من الملابس، ونحن دون انتباه منا في حركة دائمة، نرتدي ونخلع أثوابنا، لتتناسب مع أفعالنا، حتى وإن كانت  هذه الأفعال غير حقيقية، أولنقل  تنكرية بالمعنى الصحيح للكلمة.

 غالبا ما يهتم الأدب بالملابس كعلامة يجب فكُّ رموزها، إذ يميل إلى التّشكيك في وظيفة الثوب ومعناه ودوره في السياق الإجتماعي الذي يمر به. يقودنا الأدب إلى الحقيقة التي قد يخفيها الواقع عنّا. فالناس ممثلون بامتياز، أما عُدّة التمثيل فجاهزة دوما بما فيها “أثواب العراء”.

سعى الأدب على مراحل متتالية وحقبات طويلة إلى الحصول على اعتراف اجتماعي وأخلاقي يصعب الحصول عليه، من خلال التأرجح بين عرض الهوية وإخفائها. إذ تمكنت البراعة اللاهوتية في التحكم عن بعد في القصص الشعبي فجعلته محَمّلاً بتصاميم لأثواب العفّة، والتقوى. أستخدم الأدب وفق التغيرات الإيديولوجية لرسم شخصيات لها أثوابها الخاصة.  ففي عالم الأدب اهتم الكُتّاب بأثواب شخصياتهم المبتكرة أكثر من أثوابهم الشخصية. إذ لم يهمهم أن تكون أثوابهم على الموضة بقدر ما رغبوا أن تكون مريحة ولائقة بأمزجتهم، قبل أن تأخذ مسارا مختلفا تماما اليوم، يجاري قواعد جمال الصورة من أجل متطلبات التسويق.

 ومع هذا هناك كُتّاب تميزوا بما يرتدون. وتحوّل أسلوبهم في اللباس إلى نوع تمّ تسويقه. والأغرب اعتماد مصممي أزياء على شخصيات أدبية لابتكار أزيائهم، إذ أقيمت معارض مهمة عالميا  في باريس ونيويورك مُسْتَلهمة من  أعمال شعراء وروائيين تأثروا بهم.

خريف 2017 قدّم مصمم الأزياء ألكسندر ماكوين مجموعته مستمدًّا تقاطيعها من أثواب الكاتب أوسكار وايلد. وفي عالم الأزياء لم يكن ماكوين الوحيد المتأثر به، إذ يعتبر أكثر رجل من عالم الأدب تأثيرا في مصممي الأزياء.

سنة 1958 كتب ترومان كابوت روايته “ألماس على الأريكة”، والتي حوّلت إلى فيلم من بطولة الجميلة الأبدية أودري هيبورن، التي سحرت الجماهير بأزيائها. وكانت قد أوكلت لمصمم الأزياء هوبير دي جيفنشي، لكن النقاد دون إنقاص من حرفية جيفنشي أشاروا إلى أن ترومان كابوت هو الذي قام بتصميم نوعية لباسها وقدّمه جاهزا له.

في زمن مضى كانت أناقة الأدباء لافتة، البدلة ضرورية، مع سترة متناسقة مع القميص وربطة العنق، الحذاء لمّاع كأنه خرج للتو من مصنعه. تحضرني هنا أناقة الشاعر اللبناني أنسي الحاج، وكأنّه خارج من زمن آخر غير زمننا، شبيه أكثر بزمن رولان بارت، وألبير كامو، وغيرهم من الكتاب الذين التصقت صورهم بالأبيض والأسود في ذاكرتنا.

نجد هذه الشخصيات الرجالية الأنيقة في أدب مارغريت دوراس، إذ تملأ خزائن شخصياتها بألبسة غالية وجميلة، بالرغم من أنها كما قال رولان بارت في قراءة مظهرها “مستقلّة تماما عن نظام الموضة” هي أقرب إلى إهمال مظهرها، رغم انتقادها لأمها في هذه النقطة بالذات، لكن لعل تلك السنوات المبكرة من عمرها التي وصفتها في مذكراتها تركت بصمة أبدية ليس فقط في أدبها بل في طريقة حياتها أيضا.

في كل أدب دوراس نتقفّى أثر الفقر والمعاناة والظلم الذي تعرّضت له والدتها، وتذوقته مع أخوتها حدّ التخمة. حتى أنه يمكننا استخلاص صورة للفقر، بكل ما يرتديه من أسمال، بوسخه، وسحنته العابسة، وعريه الذي كما قال توين يفقد الشخص أي قيمة ليكون ذا فاعلية.

للتخلُّص من لعنة الفقر، تروي دوراس أنها غيّرت من مظهرها في أوج مراهقتها، كما استعملت الماكياج الفاقع، للفت النظر، وهذا ما حدث فعلا، لم يكن ما حدث لها وقوعا في الحب، كان دخولا إلى عالم آخر غير عالم والدتها، وكان نتاج تلك الخطة البسيطة على تغيير مظهرها البذرة الحقيقية لروايتها “العاشق” وقد أسمتها كذلك، لأنها لم تكن العاشقة، تقول بصريح العبارة: “لم أحبه، لكني أردت اختبار التجربة مثل كل النساء”.

إن المُعتقِد أن موضوع اللباس والموضة موضوع تافه لا يخص الأدباء والشعراء وأهل الثقافة فقد أخطأ. إن لبّ الفنون كلها يقوم على إعادة إنتاج ما نراه وما نعيشه من خلال احتكاكنا بالناس.

يحصر رولان بارت معنى الموضة في قوله أنها: “ليست ما ترتديه النّساء، بل هي أيضا ما نشاهده ونقرأه (نساء ورجالا). ابتكارات مصممي الأزياء قد ترضينا وقد تزعجنا، تماما مثل الروايات والأفلام، وكل ما يتعلّق بالمعتقدات والأحكام المسبقة والمشاعر وردات الفعل. قصّة المرء بأكملها قد يتم عرضها في بدلات شانيل وسراويل كوريج القصيرة”.

وسواء شئنا أو أبينا فإن اللباس يسجّل حضورا قويا في حياتنا، وينعكس ذلك في كل فنوننا، وابداعاتنا، ولا أعتقد أني مخطئة إن قلت إنه أهم ركيزة لقراءة الموروث التاريخي والحضاري والهوياتي للإنسان.