تبقى الصور

0
62

ما أن نفيق من النوم حتى تخطر على بالنا مشاهد عابرة لأحداث عشناها قد تكون عادية، لكن حين نستذكرها تبدو كالحلم الذي نرغب في العودة إليه. قد تكون هذه المشاهد أمكنة أو أحاديث جمعتنا مع أشخاص أعزاء، حين نستذكرها تأخذ رونقاً آخر غير صورتها الحقيقية. استذكر العازف لحن أغنية يحبها، فأعاد تلحينها بطريقة مغايرة، و استذكر الصديق صديقه الذي قاطعه، فغامر بوصله متأملاً الحصول على رد. يقول المتنبي: أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَبُ.

لا نستطيع الرجوع بالزمن إلى الوراء وعيش المشاهد ذاتها، لكن الذاكرة نعمة، فهي تستطيع إيقاظ أكثر المشاهد اختفاء و إحياءها مرة أخرى. هذا ما كانت تفعله فيوليت في المقبرة. كانت تستذكر من ذهبوا وتسمع الأحياء وهم يستذكرون أحباءهم.: كان صعباً عليها أن تجاري مستلزمات الحياة بعمل اعتيادي، فقبلت أن تصبح حارسة لأحد القبور في أحلى المناطق الريفية الفرنسية. كان زوجها لا يفعل شيئاً، فاقترحت عليه قبول هذا العمل ليكون لديهما بيت يأويهما، وعمل يدر عليهما بعض المال. لم يقبل الزوج هذا الاقتراح بسهولة، لكن فكرة المال السهل جذبته، فرضي في نهاية المطاف.

عندما وصل الزوجان  إلى المقبرة عمّ الهدوء. “فصل الصيف يقلل عدد الأموات” . هذا ما تقوله الراوية فاليري بيران التي حققت نجاحاً باهراً بعد نشر الرواية التي أسمتها “تغيير ماء الورد”. انتهزت فيوليت الفرصة لاستكشاف المكان، فراحت تتجول بين القبور وانتبهت أن معظمها متبع بصورة للشخص الذي رحل. تتميز الصور بجمالها، فكل صورة مأخوذة من أجمل ذكرى للمتوفين، وكأن الأحياء يريدون استذكار راحليهم بأبهى حلة ظهروا فيها. تقوم فيوليت بتسجيل الصور في مخيلتها و تقييمها، لتفوز صورة العروس بلقب أجمل صورة. كانت صغيرة في السن عندما توفت، ولم تكن تعرف أن أجمل صورة وذكرى لها ستكون يوم عرسها. يزورها الجميع ويستذكرون جمالها في ذلك اليوم، متمنين لو أنها بقت أكثر مع زوجها لينجبا أولاداً يضاهي جمالهم جمالها.

ذكّرني هذا الفصل بمن رحلوا عن أوطانهم لغرض العلاج أو السياحة أو سوى ذلك من غايات، دون أن يعرفوا بأنهم لن يرجعوا إليه، و بأن آخر ذكرى لهم فيه معلقة في المطار، مكان عابر مليء بالغرباء الذين يجمعهم ذات الفعل: السفر. يرجعون إلى الوطن على هيئة جثث، ويتمّ دفنهم دون أن يتمكنوا من وداعه.

لا أحد منا يعرف أي صورة ستكون آخر صورة له، و أيها ستكون الأجمل، لكننا نبادر بأخذ أكبر عدد ممكن من الصور لنخلد ذكرى المشاهد التي عشناها، ونعيد استذكارها مرة أخرى لوحدنا أو مع من نحب. ترجع صورة إلينا، و نقرر مراسلة جميع من جمعتنا الصور بهم لنحصل على ردور مثل:  “اشتقت لك كثيراً، دعنا نلتقي مرة أخرى لنعيد هذه الذكريات أو نصنع أحلى منها”. أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي ثورة بقدرتها على اختزان كل صورنا وسهولة حفظنا اليها. سنذهب نحن ولكن ستبقى الصور.