مغالطة منطقية

0
66

أُعجبت بالموقف الأخير للشيخ السعودي “منير الخبّاز” حين خرج على الملأ شاكراً فتاةً وشابًّا قطيفيّين صححا له بعض المعلومات وسند بعض الروايات التي نقلها، وأردف ذلك بقوله: (نعم، أنا أخطأت، ولن أكرر هذا الخطأ). في المقابل وفي الفترة ذاتها من تصريح الخبّاز خرجت مجموعة من رجال الدين تطلب من عامة الناس عدم التدخل فيما لا يعنيهم، بحجة أنهم ليسوا من أهل الاختصاص، حتى ولو كانوا قراءً، وعلى دراية أو تعمق في بعض المواضيع الدينية والإسلاميات.

لماذا أُعجِب الكثير بموقف الخباز؟

إنّي أعتبره موقفاً شجاعاً وبطولياً، فنحن لم نعتد على ثقافة الاعتذار والاعتراف بالخطأ، الآباء لا يعتذرون من أطفالهم حين يُخطئون، ونادراً ما نجد مدير مدرسة يُخَطِّئ أستاذاً إذا ما أساء لأحد تلاميذه، كذلك مالك الشركة الذي غالباً يقف مع مدير القسم فيُهضَمُ حق الموظف، أما السلطتان الدينية والسياسية، فهما عندنا فوق النقد.

أمام كل هذا المحيط وهذا النمط من التربية المجتمعية، يصعب على الكبير أو صاحب العلم والجاه أن يعتذر لمن يراهُ دونه. أذكر في أحد الندوات لمثقف وأكاديمي بارز؛ قامت فتاة لم تتجاوز السادسة عشر من عمرها بالاعتراض على استنتاجاته، ورغم أن ملاحظاتها كانت قيِّمة، إلا أنه أجابها بطريقة متعالية قائلاً: (هذا كلام فارغ).

إن الإنسان يحتاج لمجاهدة حتى يمتلك القدرة على النقد الذاتي، أو على الأقل احترام وجود الآخرين كذوات مفكرة ولها تجارب.

من هم أهل الاختصاص؟

هناك مغالطة دائما ما يتم طرحها إذا ما تحدث أحدهم في مسألة دينية، حتى ولو كان مثقفاً، فيرد عليه تلقائياً: (أنت لست من أهل الاختصاص). لأن المتحدث وباختصار يتحدث من خارج الدائرة الإيمانية، ولم يدرس في المؤسسة الدينية المعترف بها.

تقوم هذه المغالطة على أنه دائما ما يقارَن الاختصاص في المسائل الدينية بالاختصاص في العلوم التجريبية، فيُقال مثلاً: أنت في حال حدوث عُطلٍ كهربائي تلجَأ إلى الكهربائي، وفي حال حدوث عُطلٍ في الجسد تلجأ إلى الطبيب، كذلك عليك ألّا تلجأ إلا لرجل الدين إذا ما كان لديك إشكال في العقيدة.

المغالطة هنا هو أننا نقارن بين معرفة عقلية وعلم قائم على التجريب، أي خاضع للتجارب السريرية أو المختبرية، وبناء على النتائج يُحدَد ما هو صحيح وما هو خاطئ، ورغم كل ذلك يوجد لدينا مدارس متعددة للتطبيب وللمفاهيم الصحية.

كيف إذن يمكن إسقاط هذه العلوم وأمثلتها على المعارف العقلية المجردة، كالفلسفة، أو الدراسات الوجودية، أو تلك المعارف الدينية التي تخضع للاجتهاد الشخصي، والبراهين الذاتية، بالإضافة إلى التأويل، وفي أحيان كثيرة للذوق والاطمئنان، وتاريخ طويل كما نعرف من التوظيف السيا-ثقافي!

في روايته “اسم الوردة” كان الفيلسوف الراحل أمبيرتو إيكو يسلط الضوء على مسألة مشابهة، وهي مسألة احتكار القساوسة لفترات طويلة تفسيرهم للأناجيل، وإبعاد أي أحد خارج الكنيسة من الوصول للكتاب المقدس أو قراءته، وذلك عن طريق عدم تدريس اللاتينية بالإضافة إلى منع ترجمة الأناجيل إلى لغات أخرى، وهكذا يحتكرون هم تفسير الكتاب المقدس وفهمه كشكل من أشكال السلطة على العقل، وكانوا يبررون ذلك بقولهم: (إن ترجمة الكتاب المقدس للفقراء والعامة فيه امتهان لكلمة الرب).

استذكرت في موقف الشيخ الخباز مقولةً للحلاج حين صرّح بأنه يحب من يبين له عيوبه أكثر ممن يمتدح فضائله، لأن من يبين له عيوبه ينمي عنده القدرة على مراجعة النفس والنقد الذاتي، أما من يكثر المديح، فإنه لا يقدم لنا خدمة جلية، بل يخلق منا كائناً متضخما وطاووسياً، كما هو الحال مع كثير من أهل الثقافة والدين والجاه عندنا.

فهم الأديان وتاريخها مجال مختلف عن فهم الطبيعة وقوانينها، وإذا كانت الثانية صارمة وواضحة، فإن الأولى تحمل الكثير من الارتباك لخضوعها لتأملات الفرد، وبراهينه الذاتية، وتأويلاته، بالإضافة لتاريخ طويل من التوظيف السياسي والمذهبي، وفيها ليس هناك صحيح وخاطئ إلا فيما يتفق فيه التابع مع المتبوع.

شخصياً، حصلت على إجابات عديدة لأسئلتي من خارج دائرة رجال الدين، لقد كنتُ من محبي أطروحات السيد محمد حسين فضل الله ومعالجته للقضايا، لكن بعض الإجابات عنده لم تكن مقنعةً بتاتاً، وخلقت لدي الكثير من الأسئلة التي وجدت بعض إجاباتها لدى مفكرين ومحققين من أمثال هادي العلوي وحسين مُرُوَّة المحسوبان على التيار الماركسي – خصوصا في معالجتهما الغنية للتاريخ العربي الإسلامي – وكذلك عند نصر حامد أبو زيد الذي تم اضطهاده من قِبَل المؤسسة الدينية لعلمانيته، وعند متصوف مثل “ابن عربي” الذي يحمل من العمق ما كان قادراً على أن يجيب على سؤالي الذي حملته معي طويلاً: (كيف يمكن أن تصدر هذه الكثرة في الوجود بلغاته وأديانه وعقوله المختلفة من شيء واحد، كيف يمكننا التوفيق بين رؤيتنا لكل هذه الموجودات مع القول بوجود مُوجِد واحد لها؟). لقد نقلتني إجابات ابن عربي وفلسفته من الكفر بكل ما هو ضيّق إلى سعة المفهوم الإلهي وكيف يمكن لله أن يكون الواحد الذي يتضمن الكثرة.

إن الاختصاص في المسائل الدينية والمفاهيم المجردة يمكن أن يشترك فيه رجل الدين، والمثقف اللاديني، والقارئ في التراث، فهو فضاء مفتوح بصورة أكبر من العلم التجريبي، وادعاء الاختزال ليس إلا تضييق بدافع سلطوي، إنه مثل أن تختزل المحيط في كأس واحد، وتقول للناس عليكم ألا تشربوا إلا منه.

لكل بصير أن يرى بأن دوافع تقويض العقل وتكميم الفاه أقرب إلى الخوف على السلطة والجاه الثقافي أو الديني منه إلى البحث عن الحقيقة، من يبحث عن الحق هو من يدخل البحر ويغوص فيه ولا يرضى بما يُصبَّ له في الكأس فقط، ولا يبالي من الغرق وإلى أين يقوده هذا البحر، ولا ينكر أنه قد يُخطئ، ولا يخاف أن يقول: لا أعلم. فهو في حال البحث قد لا يصل لجواب شافٍ. إن بعض المسائل من طبيعتها أن تكون سراً، وفي سِرها سعة لها. ورغم ما يقودنا إليه السؤال من حيرة، إلا أنه يفتحنا على إجابات عديدة لأسئلة أخرى ما كنا لنجد لها جواباً حال بقائنا على اليقين الجاهل، لذلك يقول ابن عربي: أشهدني الحق بالحيرة. أي بتعدد طرق الوصول إليه، ولو لم يلتفت لهذه الحيرة والتعدد لما شهد الحق.

أراد المفسر الكبير الفخر الرازي ان يبحث عن الحقيقة بصدق، وحين أخلص لذلك صرَّح في نهاية عمره قائلاً:

نهاية إقدامِ العقولِ عِقالُ وأكثرُ سَعي العالمينَ ضَلالُ

ولَم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

هكذا هو العارف لا يخجل من أن يعترف بأن معرفته بالأشياء قد تكون هباءً أمام سر الكون الكبير، فالإنسان محدود، وإيمانه محدود على قدر قلبه، وعقله محدود. العالِم يشرب قطرة من بحر المعرفة ويكتفي، اما العارف فإنه يحسو بحار الكون ولا يكتفي، والعالِم دون العارف كما يقول العرفاء.

حين نصل لهذه القناعة سنتقبل من الجميع أن يطرحوا ما لديهم من أسئلة وإشكاليات، وسنعلم أطفالنا الصغار هذه المهارة بدل أن نقول لهم: عيب، ونضع لهم الكثير من الخطوط الحمراء التي يحرم عليهم تجاوزها.