بين الحنين للأماكن و الأشخاص

0
96

حدثني صديق بأنه حين شارف وقت الانتقال لبيت جديد مع أهله، رفض المغادرة و أصرّ على البقاء في البيت القديم، مع أن البيت الجديد كان في غاية الروعة ويضمّ غرفة له وحده. بقى في البيت القديم وتعلّق به أكثر. كتعلقه بالبيت، كان متعلقاً بأخته الصغيرة، حيث تعود أن يغني لها وأن يروي لها القصص قبل أن تنام. حار بين البقاء في البيت القديم، والذهاب لمساعدة أخته على النوم، فاختار أن يعرج كل ليلة الى البيت الجديد لرواية القصص لأخته، والرجوع إلى البيت القديم لينام فيه.

بقي صديقي على هذه الحال فترة، حتى قررت عائلة جده تأجير المساحة التي كان يسكن فيها. كان خبراً حزيناً بالنسبة لصديقي الذي لم يكن يرغب بترك بيته، كذاك الرجل الذي يتم ابعاده عن وطنه، ولا يستطيع الرجوع اليه.

العناد لا ينفع في هذه الحالة لأنه ليس سيد الموقف. يجب أن يستعد لوداع المكان وأن يرحل. من كثر حنينه للمكان خلته يتكلم عن شخص، و اذا به يعلق مفتاح البيت على رقبته. ان راح من العين، يظل  قريباً من القلب على الأقل. اضطر إلى اللجوء إلى الوقت ليتعود على البيت الجديد وحاول الاستمتاع مع أخوته فيه، الا أن حنينه ظلّ مع أول منزل. قبل تأجيره، كان يدخل البيت مرة أخرى ويجلس فيه، حتى أتت لحظة تمّ فيها تغيير القفل، ولم يتمكن من دخوله مرة أخرى. كان كل ما سنحت له الفرصة يذهب ويتأمل بيته القديم من بعيد تحت ضوء القمر.

أخبرنا نحن الأصدقاء عن حنينه لهذا البيت، الذي بفضله استطاع تأليف مقطوعات موسيقية عدة، من المتوقع أن يتم اطلاقها قريباً، فصديقي موسيقي موهوب. لتعلقنا بحكياته، قرر بعض الأصدقاء مشاركته عشقه لهذا المكان و انتاج فيديو يرافق المقطوعات الموسيقية. إخراج المشاهد كان أكثر من رائع، و فكرة انشاء معرض لتدشين الألبوم باتت ليس ببعيدة.

على الرغم من مرور فترة من الزمن على تركه البيت، تأتيه لحظات يحنّ إليه لدرجة البكاء، وكأنما هذا البيت وطن، فأخبرته بما كتب الدكتور حسن مدن بهذا الشأن:

“أحد كبار الكُتاب ينصحنا بألا نعود إلى المكان إذا أصابنا الحنين إليه، ولعله بهذا القول يحذرنا من الصدمة التي تنتابنا حين نجد المكان الذي اجتاحنا الحنين إليه، لأنه ارتبط في أفئدتنا وعقولنا بذكريات جميلة، فلا نجده كما كان، أو على الأقل لم تعد صورته وتفاصيله تتطابق مع تلك القابعة في مخيلتنا، أو ذاكرتنا عنه”.

أخبرته بأنه وإن رجع لنفس البيت، لن يستطيع عيش الذكريات ذاتها التي لوّنت حنينه لأن الزمن لا يعود، وليس بوسعنا إعادة إحياءه مهما حاولنا.

لا أعرف إن كنا نستطيع عقد مقارنة بين الأماكن والأشخاص. صحيح بأنه لا يفضل الرجوع لنفس المكان ان تركناه، ولكننا حتماً لا نستطيع العودة إلى الأشخاص إن رحلوا عن هذه الحياة. مهما تهالك المكان، يظلّ موجوداً، إلا أنه لا يبقى من الأشخاص الا الذكرى. وقد ينحسر القلب من شدة الألم لفراقهم عنا. في فيلم “العزيز جون”، يقول البطل: “أتألم من كثر اشتياقي اليك”. أحسب بأن ألفونس لامارتين قارن بين الأماكن والأشخاص عندما قال: “نشتاق لشخص واحد فقط، و يصبح العالم مهجوراً فجأة”. وكأن ليس للمكان قيمة من دون أصحابه.

تأتي لحظات نرحل عن الأماكن فجأة ولكننا نملك بعض اللحظات لتوديعها، إلا إننا لا نحظى دائماً بفرصة توديع من نحب، فيرحلون هكذا وكأنهم لم يكونوا. من يحنّ للمكان، يجعله مثالياً في مخيلته، حتى وإن لم يكن، و من يملك امكانية الرجوع اليه، قد يخيب ظنه لغياب الذكريات وربما الأشخاص عنه،  فلا نملك سوى صنع ذكريات وصور حنين جديدة.