قراءة في كتاب “مهزلة العقل البشري”

0
105

يحاول الدكتور علي الوردي من خلال كتابه الغني والمثري (مهزلة العقل البشري) أن يدرس بعض الظواهر التي تحدد الأطر العامة للعقل الديني العربي ضمن إطار اجتماعي، تاريخي، نقدي. وقد خصص مقدمة الكتاب للرد على الهجوم الشرس الذي تعرض له كتابُه الأسبق (وعاظ السلاطين) وآراؤه اللاذعة التي وجهها للمتملقين والمنافقين الذين يستخدمون الدين كوسيلة للوصول لمآربهم وتحقيق مطامعهم الشخصية على حساب الآخرين.

المثير أن بعض هذه الآراء كادت تودي بحياة علي الوردي لولا أنه استطاع النفاذ منها بإعجوبة. كان الدكتور ناقداً لسلوك بعض رجال الدين وأساليبهم الملتوية التي تظهر للناس عكس ماتخفيه من مكرٍ ودهاء. يطلب الدكتور برجاء من القارِئ قبل أن يقرأ مهزلة العقل البشري أن يدرك بأن هذا الكتاب قد لايتماشى مع الاعتقادات المسبّقة للقارِئ، وأن القارِئ يجب أن يتحلى بالمرونة الفكرية اللازمة لتقبل الأفكار الأخرى وعدم محاربتها مباشرةً، هذا -على ما أظن- تمرينٌ لا يخلو من الأهمية للقارِئ الذي يجيء من بيئةٍ يسيطر عليها الإنغلاق الفكري والتفكير الأحادي والأُطُر المحددة سلفاً، إذ يقول في أول صفحاته: “إن هذا الكتاب للذين يريدون أن يفهموا ما يقرؤون، وليس للذين يريدون من الكتاب أن ينقل ماهو مسطورٌ في  أدمغتهم مسبقاً”

من خلال علم الاجتماع واختصاصه كسوسيولوجي يلقي الدكتور الضوء على أمور عديدة؛ مثل العلاقة التي احتدمت بين الأفلاطونيين والسفسطائيين في أثينا. ينتقد دوغمائية المنطق الأرسطي في المقابل يظهر سوء الفهم والتشويه الذي لحق بالسفسطائيين وفلسفتهم، مع ميل الوردي الواضح لجانب السفسطائيين الذين قدموا الكثير لمدرسة أثينا، إلى جانب ذلك يحاول بيان أن الواقع لا تؤثر فيه روعة وجمالية الفكرة بقدر ما تمثِّلُهُ إمكانية تطبيقها، لأن فائدتها ستكون محدودة.

يعدها، يتطرق الوردي، وبتعمق أكثر للصراع السياسي الديني في الإسلام بين مختلف المذاهب والطوائف على رأسهم الصراع بين الأمويين والعباسيين والعلويين، الصراع الذي أثر في بنية العقل العربي والتراث الإسلامي أيما تأثّر، ومازالت تداعياتهُ على الشارع العربي والإسلامي كبيرة الى يومنا هذا. لعل أكثر ما لفت انتباهي في الكتاب هو بحثه التاريخي الاجتماعي للعلاقة التي جمعتْ الثلاثي الأبرز في حقبة صدر الإسلام – أبا بكر، عمرًا، وعلي – بعد وفاة النبي (ص) بأنها علاقة اتسمت بالجدية والعمل المشترك من أجل الإسلام بعيداً عن النزوات الشخصية، صحيح أن العلاقة بين الثلاثي كانت في باديء الأمر تشوبها بعض الخلافات، لكن سرعان ما تسامى ذلك الثلاثي على تلك الخلافات ليكون العمل والوجهةُ نحو الإسلام.

من الصعب أن نتعرف على سُموّ تلك العلاقة من الكتب المؤدلجة للفِرَق والتي تريد جر الأمور لصالحها فتعمل على تأصيل الصراع السياسي حتى تنمّي الولاءات داخل جماعاتها وتعزز الفكر الاحترابي (نحن/هم) وبالتالي تضمن زخم وجودها المتمثل في الأيديولوجيا. إلا أن الدكتور علي الوردي متسلحاً بعقلية متفتحة نقدية وأدوات سوسيولوجيّة حديثة يحاول تفكيك تلك البنية وأيديولوجيتها.

مع ذلك فإن الصراع السياسي الإسلامي لاينتهي إلى هذا الحد، بل يأخذ منحنىً راديكالياً مع بداية نشوء الدولة الأموية والتي – حسب الوردي – تعتبر وعن طريق آلتها الإعلامية الضخمة الإسفين الذي حاول وروّج للخلاف الحاد المزعوم بين الثلاثي – أبي بكر، عُمرٍ، وعليٍّ – ليكون ذلك الخلاف منطلقاً لها لتأسيس دولة إمبراطورية باسم الدين. يسهب الوردي في الحديث عن العلاقة التاريخية بين علي ومعاوية في شرح مفصّل، يوضّح التدافع الاجتماعي الضروري الذي لابد أن يحصل كجدليّة تاريخية اجتماعية. تنشأ سلطة جائرة من جهة وإمام أو تيار ثائر مناهض لتلك السلطة من جهة أخرى لينتج عن هذا التدافع ازدهار وبناء الحضارات، وهي نظرية كان قد أسس لها عالم الاجتماع العربي ابن خلدون في القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي في ظل الصراع المحتدم في الأندلس بين الموحدين و ملوك الطوائف والصراع في الشرق بين المماليك والعثمانيين، كلها دول وممالك تتخد من الإسلام أساساً وشعاراً لها تحارب به خصومها من المذاهب الإسلامية الأخرى، وفي ظل انشغال المسلمين في الصراع المحتدم فيما بينهم على الزعامة الدينية والسلطة السياسية المركزية تتقدم الجيوش الغربية داخل عمق الأندلس و تزحف الجيوش الشرقية المتمثلة في المغول نحو الممالك الإسلامية ثم نحو بغداد مركز الحضارة الإسلامية. وجود ابن خلدون في هذه الحقبة التي تمثل عهد أفول الحضارة الإسلامية يعد استثناءً، وعلى هذا الصراع بنى ابن خلدون نظريته في العمران – نشوء وانحطاط الدول –.

كتب الوردي في خاتمة الكتاب رسالة مهمة موجهة لنا جميعاً، مفادها أن طريقة تفكيرنا ونظرنا للأمور ماتزال متأخرة جداً، يجب أن نستبدلها ونتحلى بعقلية شجاعة واقعية تتناسب مع عصرنا: “إن الزمان الجديد يقدم لنا إنذاراً، وعلينا أن نصغي الى إنذاره قبل فوات الأوان إنه زاحف علينا بهديره الذي يصم الآذان … إن الجيل الجديد مقبل على دراسة الأفكار الحديثة وقد أصبح ذهنه مشبعاً بما فيها من منطق واقعي … الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام. والذي يريد أن يبقى على آرائه العتيقة هو كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شداد”

يتخذ الدكتور علي الوردي في ردهِ على الأفكار المضادة أساليب منطقية وفي غالب الأحيان أساليب غير منطقية فهو غالباً مايقع في مغالطة التعميم حتى على الأفكار المنتخبة من قِبَله ربما لحماسته الشديدة وحسه الاندفاعي النيتشوي، لعل هذا مايعيب بعض أبحاث الوردي، لكن هذا لا يفقدها أهميتها بطبيعة الحال. يجب أيضًا ألا نتغافل عن السجال الذي يصل الى حد الشجار بين الفئات الثقافية ورجال الدين والشارع ورجال السياسة في العراق الذي كان يمر بمراحل ومنعطفات سياسية حرجة خمسينيات القرن الماضي، بالطّبع ستكون هذه الأجواء المشحونة مؤثرة على الأسلوب والمزاج العام للمفكّر وحتى القارِئ.