النداء الأخير

0
82

في الندوة الأخيرة التي عقدها (مختبر الفلسفة والفكر النقدي) بالتعاون مع (المنبر التقدمي) حول كتاب الكاتب والأديب الراحل عبدالله خليفة (رأس المال الحكومي الشرقي)، في شهر أكتوبر/ تشرين ثاني الماضي، قلتُ بأنها ضرورة لا جدال عليها أن نتفق على برنامج اشتراكي حقيقي. كما قلتُ بإن الطريق نحو ذلك هو ثورة ثقافية؛ ثورة شأنها أن تجعل من الماركسية – في الممارسة والنظرية – أساساً لكل شيء آخر. لم أدعِ بأنني أملك كُل الأجوبة، والأكثر من ذلك: ليس شأني أن أملك كُل الأجوبة. لكن لم تكن دعوتي كافية لأن تُحدث أي ردة فعل حقيقية، وبالتالي جابهت ما كنتُ أجابهه دوماً: صمت مُطبق.

من الممكن أن يعترض أحدنا قائلاً: ”حسناً، تقول برنامج اشتراكي. ولكن هل هذا هو واجبنا في هذه المرحلة بالتحديد؟ أليس هناك ما هو أهمّ من ذلك كله؟“. إنه حان دوري لأصمت، وسأدع لينين يُجيب على هذا الرأي:

“نسمع من بعض الرفاق رأياً يفيد بأن الوضع الراهن لا يتطلب بشكل خاص أي حاجة للعمل على البرنامج السياسي؛ وبالتالي، حسبهم، تكون القضية قضية تعميق وتمكين التنظيمات المحلية فقط … ويرون بأنه سيكون من الأفضل تأجيل العمل على هذا البرنامج حتى تكون الحركة [الاشتراكية-الديموقراطية] قادرة على أن تقف على رجليها؛ وبالتالي سيكون البرنامج، في الوقت الراهن، زائداً عن الحاجة. لكننا لا نتفق مع هذا الرأي. صحيح، قال ماركس ”إن خطوة واحدة من حركة فعلية تعادل أعداد فائضة من البرامج“، ولكن لم ينكر ماركس ولا أي منظر أو عامل في الحركة الاشتراكية-الديموقراطية ابداً الأهمية العظمى للبرنامج في قوة ونشاط الحزب السياسي.”[1]

لم تكن الاقتباسات ابداً معياراً حقيقياً للمهام الملحة التي تنتظر أي تنظيم كان، فأنا لا أقتبس لينين لأسباب مقدسة؛ لتهديد القارئ بما قاله سلفنا. ليس للاقتباسات أية سلطة، إذ يُمكن للمرء أن يصنع بها ما يشاء.  إنما أُذكر القارئ بهذا الاقتباس لأسباب مبدئية؛ إذ أن ضرورة برنامج سياسي اشتراكي هي ضرورة مبدئية قبل كُل شيء آخر. ليس الوعي الاشتراكي هو الذي يحدث برنامجاً اشتراكياً، بل البرنامج الاشتراكي هو الذي يحدث وعياً اشتراكياً.

هذه هي القضية الأساسية التي يتوجب عرضها للمناقشة. هذه هي القضية الملحة التي يجب حسمها.

قد يجيء معترض آخر ليقول: ”ألا يكفي برنامجنا الحالي، الذي يقر بتبنيه ”منهج التحليل العلمي الثوري وفق الفهم الجدلي المادي والتاريخي“، ليحمل الرسالة هذه؟ أو على الأقل ألا يكفي بأن نقوم ببضعة تعديلات عليه؟“. نُجيب على هذا السؤال بالنفي وسنذكر الأسباب.

تختلف الظروف التي كُتب فيها البرنامج السياسي للمنبر التقدمي اختلافاً تاماً عن الظروف التي نعيشها حالياً. وإذا أردنا ذكر بعضها نكتفي بالقول بإن ما يفصلنا ويفصل الزمن الذي كُتب فيه هذا البرنامج هو: 17 عاماً، وأزمة سياسية لم تشهدها البحرين من قبل، وتراجع فعلي للحريات الديموقراطية، وحرب إقليمية، وأزمتين اقتصاديتين، ونمو رأس المال الاحتكاري، وتراجع فعلي في الأوضاع المعيشية الشعبية (غلاء الأسعار، ضريبة القيمة المضافة، الإضرار بمصالح البورجوازية الصغيرة التقليدية، رفع الدعم عن السلع الأساسية)، وجائحة كورونا، وتراكم الدين العام ليتجاوز 130% إلخ.

كما تختلف هذه الظروف من ناحية أخرى، إذ كُتب البرنامج السياسي هذا في زمن عبرت فيه القوى الطبقية العامة عن المساومة الطبقية (ميثاق العمل الوطني، المصالحة ما بين المعارضة والحكومة، أو ما سماه أحمد الذوادي وصفياً بـ “التقاء الإرادتين)، بينما نعيش الآن في حالة تكون فيها للبورجوازية الغلبة، ايّ هزيمة الطبقات الشعبية سياسياً، واقتصادياً، وآيديولوجياً، فإنه من الطبيعي، إذن، أن يُكتب البرنامج السياسي – حينذاك – وفقاً للمنطق الذي كُتب خلاله؛ ومن الطبيعي أن تكون هذه المآخذ حاضرة فيه، إذ الظرف الموضوعي نفسه سمح لها أن تكون حاضرة. لكنه من غير الطبيعي إطلاقاً أن تستمر في الحضور في وقتنا هذا، إذ الظرف الموضوعي يلفظها تماماً.

إنه من المعروف بأن استراتيجيا الصراع الطبقي تختلف باختلاف التغيرات في شكل القوى الطبقية. نعيش اليوم في حالة تكون الطبقة العاملة في موقع الدفاع، إذ – كما قلتُ آنفاً – تواجه الطبقات الشعبية هزيمة كاملة بعد ضرب قواعدها (ضعف وانقسام النقابات، إلغاء أهم الجمعيات السياسية المعارضة، تراجع الصحافة، ضعف البرلمان إلخ). وبخلاف ما يعتقده الكثيرون، لم تذق الطبقات الشعبية هذه الضربة مرة واحدة فيما أنها مجرد تعيش آثارها حالياً (وتجدهم على هذا الزعم يطالبون بالعودة إلى الحالة القديمة للمساومة، ولكنهم ينسون بأن المساومة لا تُقام بين طرف مهزوم وطرف منتصر). على العكس، هذه الضربات متتالية ومستمرة من قِبل الطرف المنتصر، وهذا بدوره يُعزز القدرة على رفع معدل القيمة الزائدة لمقارعة هبوط معدل الربح، ولا أحد يعلم إلى متى ستدوم هذه الحالة.

قارن ذلك بالحالة التي كنا نعيشها في الزمن الذي كُتب فيه البرنامج السياسي؛ في زمن كان فيه الظرف العام يُفضل استراتيجية التقوية. أقول “كان يُفضل” إذ جميعنا يعلم بأن البرنامج السياسي كُله صُمم ليتبنى، أو ليحصر نفسه في، استراتيجية دفاعية بشكل عام؛ بينما في حقيقة الأمر تختلف الاستراتيجيا من زمن إلى آخر، ايّ من الضروري كتابة برنامج يصلح لكل استراتيجية مُمكنة ولا يحصر نفسه بواحدة دون الأخريات. لكن ما الذي دفع (التقدمي) نحو ذلك؟ وما الضامن الحقيقي لتبني استراتيجيات ملائمة للحظات الملموسة؟

سيكون علينا أن نتعامل هنا مع ثلاث عناصر: الاستراتيجيا السياسية (أو الخط السياسي العام)، والاستراتيجيا التكتيكية، والبرنامج السياسي.

(1) الاستراتيجيا السياسية. إنها تتضمن السياسة العامة، أو التوجه العام، في مرحلة معينة وحقبة معينة من تطوّر الرأسمالية لأي تنظيم كان؛ واجبها هو إدراك التناقض الرئيس، أو ”الحلقة الحاسمة“، في مفردية التناقض. ويتغير هذا التناقض بالضرورة إما بالتمرحل وإما بالتحقب، ايّ عبر تغيير راديكالي للأوضاع الاجتماعية ككل. كيف يُمكن إدراك الحلقة الحاسمة في التناقض؟ عبر قراءة مميزات كُل مرحلة وكُل حقبة، إذ إنها تبني التوجه العام هذا وفقاً للقراءة هذه. نُضيف بأن الاستراتيجيا السياسية تُحدد القوى الطبقية القائدة والقوى الطبقية الرئيسية، وشكل التحالفات الطبقية المطلوبة، والخطة السياسية، والتفرقة ما بين الأقسام والفئات القادرة على أن تكون قوى اجتماعية والشرائح التي لا تمثل قوى اجتماعية مستقلة. إن واجب الاستراتيجيا السياسية أيضاً يقع في تحديد الجهاز المسيطر في الدولة الرأسمالية، وتحديد مميزات الدولة في التمرحل والتحقب، والأشكال الآيديولوجية الطاغية. إنها تحدد الوضع العام لكتلة السلطة، والقسم المهيمن فيها من الطبقة المسيطرة، مثلما عليها أن تحدد الطبقة الحاكمة. كما عليها أن تُحدد الوضع الإقليمي والعالمي، وعلاقة البنية الاجتماعية بالبنية العامة للامبريالية العالمية.

ما الاستراتيجيا السياسية التي يُوفرها البرنامج السياسي الحالي للـ (التقدمي)؟ لا شيء. إنه برنامج متمسك بالعدالة الاجتماعية وبالمساواة؛ عبارات لا معنى لها من وجهة نظر العلم الماركسي. إنه برنامج يدعو لتأبيد المساومة الطبقية، ايّ لتخفيف حدة التناقضات الطبقية. إنه يدعو للدفاع عن حقوق ”الفقراء“ دون أن يُحدد معنى “الفقراء والكادحين”، ودون أن يُحدد التناقض الرئيس، ولا مميزات المرحلة من جهة والحقبة الحالية من جهة اخرى، ولا يُحدد القوى الطبقية القائدة والرئيسية في المجتمع البحريني، ولا شكل التحالفات الطبقية المطلوبة. لا نجد شيئاً سوى “العولمة المتمحورة” و”النيوليبرالية”؛ وهذه شعارات لا تفسر شيئاً. أما بالنسبة لطبيعة الدولة فأننا لا نجد أي شيء سوى ضرورة “تعميق الديموقراطية”[2].

كيف سيكون شكل الاستراتيجيا السياسية لبرنامج اشتراكي في البحرين؟ سأذكر بعضها بنسقية:

(1) من وجهة نظر التناقض الأساسي. إنها تُحدد قبل كُل شيء آخر بأنه جرى على العلاقات الإنتاجية الرأسمالية في البحرين منذ بداية هذا القرن، ايّ في مثل الوقت الذي كُتب فيه البرنامج السياسي، تعديلات بنيوية أدخلت النظام الرأسمالي البحريني في حقبة تسيد الإنتاج الرأسمالي- الكولونيالي وظهور رأس المال الاحتكاري. يترافق مع ذلك، تمرحل الدولة الكولونيالية من قوميّة لتكون سلطوية (سمة عامة تمتاز بها حتى أكثر البلدان ديموقراطية في العالم).

ملاحظة: مع تأسيس الدولة القوميّة في البحرين (بعد الاستقلال السياسي من الحضور الاستعماري للإمبريالية الإنكليزية) كان الجهاز المسيطر في الدولة هو الجهاز القبائلي، أيّ صار الأخير جهازاً سياسياً ملموساً. ترافق مع ذلك حقبة انتقالية لتعميم الإنتاج الرأسمالي-الكولونيالي منذ الربع الأخير من السبعينيات حتى بداية هذا القرن.

ملاحظة ثانية: إن حقبة تسيّد الإنتاج الرأسمالي الكولونيالي، خصوصاً بوجود الريع النفطي التابع لرأس المال الدولة، سمح لرأس المال الاحتكاري (بقيادة رأس المال الدولة) أن يقود تعديلات في العلاقات الإنتاجية على النحو الاجتماعي ككل. فأخضع رأس المال غير الاحتكاري له، وبدأ يتسع أكثر فأكثر حتى أنه أضر بالمصلحة الطبقية للبورجوازية الصغيرة التقليدية، وظهر وقتها رأس المال الخاص برعاية رأس المال الدولة، واتسع العمل المأجور ليشمل غالبيّة القوى العاملة، كما إنه سمح لنفسه أن يدخل بشكل فعال في عملية تعولم رأس المال، وتمكن من خلق قسم الأرستقراطية العمالية، واعتمد على العمالة الوافدة الرخيصة إلخ. ظهر رأس المال الاحتكاري في البحرين في هيئة مساومة طبقية عامة، تمكن عبرها من توظيف بعض فوائضه في القطاعات الاجتماعية.

إذن، على الإستراتيجيا السياسية للبرنامج الاشتراكي أن تكون استراتيجية موجهة ضد رأس المال الاحتكاري كموضوعها. ثانياً، لا يُمكن للاستراتيجيا السياسية هذه أن تخدع نفسها بإمكانية تحول خطي طبيعي للديموقراطية في البحرين، إذ الجهاز المسيطر ليس الجهاز البرلماني على الإطلاق (وبالتالي الدعوة لانتقال ديموقراطي طبيعي، كتلك التي نجدها في البرنامج السياسي، لا معنى لها إطلاقاً).

(2) من وجهة التناقض الرئيس. إنها تُحدد بأن بعد أفول حركة التحرر الوطني في الحقبة الأولى لمرحلة تعميم الإنتاج الرأسمالي-الكولونيالي (أو التبعية في مرحلة عولمة رأس المال) وتمرحل الدولة الكولونيالية من قومية لتكون سلطوية، يتمحور التناقض الرئيس حول الديموقراطية التشاركية، ايّ ما بين السلطوية) والمشاركة الشعبية[3]. تتأطر حقول الصراع الطبقي، الحقل الاقتصادي والسياسي والآيديولوجي، بالتناقض الرئيس هذا.

نقولُ بإيجاز بإن الطبقة المسيطرة في البحرين هي البورجوازية الكولونيالية (بكافة أقسامها، وبالتالي تتضمن رأس المال الاحتكاري وغير الاحتكاري)، والقسم المهيمن منها هو بورجوازية الدولة، بينما الطبقة المستغَلة الرئيسة هي الطبقة البروليتارية (المواطنة والوافدة)، ايّ العمال المأجورين في الإنتاج الصناعي المادي بكل أشكاله، والزراعة، والخدمات التي تساهم مباشرة في الإنتاج المادي (مثل الشحن والنقل والتصليح). أما الطبقات المستغَلة الثانوية هي البورجوازية الصغيرة المتجددة (الموظفين) والبورجوازية الصغيرة التقليدية (أصحاب العمل الصغار، والمشاريع الصغيرة، والحرفيين، والصيادين، والمزارعين الصغار إلخ). إن الطبقة القائدة لأي حركة ممكنة هي الطبقة البروليتارية، بينما الطبقة الرئيسية هي الأقسام المتوسطة والمتدنية من البورجوازية الصغيرة المتجددة.

إذن، لا بد أن تكون الاستراتيجيا السياسية استراتيجية مناهضة لرأس المال الاحتكاري، ولكي تكون كذلك عليها: (1) توحيد العمال البروليتاريين (المواطنة والوافدة، وهذا يعني فوراً بأن الشوفينية، والذكورية، والطائفية، والعنصرية هي أمور يجب محاربتها بكل الطرق ممكنة). (2) توحيد العمال والموظفين تحت شعار واحد ضد رأس المال الاحتكاري. (3) لا يُمكن إقامة التحالف ما بين العمال، والموظفين، والبورجوازية الصغيرة التقليدية إلا عبر الجمعيات السياسية الأخرى التي بعضها غير مسموح لها المشاركة في الحياة السياسية العامة، مما يستدعي المطالبة بشكل أساسي لعودة الحياة السياسية هذه. (4) إن البرلمان في البحرين هو نقطة ضعف البورجوازية بقدر ما هو نقطة قوتها.

(2) الاستراتيجيا التكتيكية. إنها تتضمن المفاهيم العملية لتنفيذ الاستراتيجيا السياسية، ايّ أنها دائماً خاضعة للاستراتيجيا السياسية. تعتمد استراتيجيات الهجوم، أو الدفاع، أو التقوية، كلها على الظرف العملي اليومي الملموس وبالتالي لا يُمكن أن نخلط ما بينها وبين الاستراتيجيا السياسية التي هي في موقع ثابت نسبياً. إنها دائماً تُركز على تنفيذ الأخيرة مع دراسة مستمرة لحالة توازن القوى الطبقية نفسها. إنها ايضاً تتضمن الأشكال الملموسة لتنفيذ الاستراتيجيا هذه، وترويج للبرنامج السياسي نفسه، وهي متغيرة: المشاركة في البرلمان مثلاً، أو مقاطعة البرلمان، أو طرق تمكين الهيئات القاعدية، الإضرابات، تحويل الشعار إلى نداء إلخ. إنها ايضاً تُحدد طبيعة الأزمات الاقتصادية والسياسية (أزمة الهيمنة الطبقية، أزمة السيطرة الطبقية، أزمة سياسية عامة، أزمة اقتصادية عامة إلخ).

ثانية، سنقول بإيجاز: الاستراتيجية الدفاعية تقوم على مبدأ الحفاظ على الذات (تغليب الدفاع على الهجوم)، ايّ أنها دائماً تفترض بأن الطرف الآخر هو في وضعية الهجوم؛ استراتيجية التقوية تقوم على مبدأ توسعة قواعد وقنوات العمل الممكنة (التوازن ما بين الدفاع والهجوم)؛ الاستراتيجية الهجومية تقوم على مبدأ تجريد الطرف الآخر من مواقعه (تغليب الهجوم على الدفاع)، ايّ عبر تصفيّة كل العوائق لتحقيق غاية من غايات الاستراتيجيا السياسية.

مثال التجربة البرلمانية وتمرير قانون زيادة ضريبة القيمة المضافة: صوت البرلمان، بشكل مضاد لإرادة الشعب، تأييداً لزيادة ضريبة القيمة المضافة 10%. ومن ضمن الذين صوتوا رفضاً لهذا القانون عضوين في كتلة تقدم بينما امتنع الثالث. هذه خطوة جيدة وسيقدرها الشعب. لكن هل يكفي التصويت ضد هذا القانون؟ لا يقدس الاشتراكيون البرلمانات مهما كانت ديموقراطية، إذ إنهم يسعون إلى استبدالها بالمجالس الشعبية (أو ما يُعرف باسم الكوميونات أو السوفيتات). لكن لما كان التقدمي فاقداً لبرنامج اشتراكي، ولما كان برنامجه السياسي مُصمم لتكون استراتيجيته التكتيكية دفاعية على الدوام، تجده لم يخطر على باله أن يعمق التناقض البرلماني هذا ولم يخطر على باله أن يلجأ إلى الشعب (أيّ، لتعميق التناقضات).

إن قضية الضريبة المضافة هي المحورية، حقيقة أنه تم تجاوز هذه القضية كمجرد مسألة ”تصويت ديموقراطي“ هو خطأ تكتيكي وسياسي خطير سندفع ثمنه الباهض في السنوات القادمة؛ هذه حقيقة لن يستطيع أي أحد أن يجادلني عليها، ما لم كان بورجوازياً متخفياً تحت عباءة متمركسة.

هذا مثال، ويبين بوضوح الأخطاء التكتيكية الناتجة مباشرة عن طبيعة البرنامج السياسي. في مثل الوقت، على العكس من المتطرفين، والطفوليين، ومراهقي السياسة، الذين دائماً في انتظار الوقت المناسب للهجوم ولا يؤمنون بشيء سواه، الذين تراهم يسخرون من كُل عاقل يدعو إلى الدفاع، لا بد من الاعتراف بأن كُل شيء يعتمد على الظروف الموضوعية التي تُمكن هذا التكتيك وتستبعد التكتيك الآخر. إن الذين لا يؤمنون بالتراجع، في الوقت الذي يلزم التراجع، خاسرون حتماً. هذا ايضاً يعتمد على صحة وصلابة البرنامج السياسي.

(3) البرنامج السياسي. يطرح البرنامج السياسي المطالب النهائية والهدف النهائي للتنظيم نفسه، ايّ الخلاصة النظرية العلمية المادية للتاريخ. كما أنه يطرح الشكل العام الذي يؤدي إلى هذا الهدف النهائي. اقترحتُ في مقالتي (يسارنا بحاجة إلى ثورة ثقافية) بأن يعبر كل مطلب في البرنامج السياسي عن مطلب مصغر ونهائي في مثل الوقت، وهكذا لا يتضمن أي مطالب إصلاحية بحد ذاتها دون أن تؤدي إلى استنتاج نهائي بضرورة تجاوز الرأسمالية. كما قلت بإن كُل مطلب اقتصادي عليه أن يكون سياسياً في مثل الوقت. إن واجب البرنامج السياسي تحديد طبيعة نمط الإنتاج الطاغي في البنية الاجتماعية، كما عليه أن يحدد بوضوح طبيعة نمط الإنتاج الذي يهدف إليه. هكذا، يُحدد البرنامج السياسي الشكل الحقيقي للصراع الطبقي في المجتمع والأطراف المشاركة فيه. وهذا طبعاً كُله مفقود في البرنامج الحالي.

المؤتمر العام ل”التقدمي” قادم، وها نحن ذا أمام طريقين. بلا شك، من الممكن أن أكون قد بالغت في تقدير اشتراكية رفاقنا. لعلها لم تعد تثير اهتمامهم، ولعلهم بحاجة إلى وعي اشتراكي أولاً؛ فالبرنامج الاشتراكي هو الذي يحدث وعياً اشتراكياً عند الجماهير، ولكن البرنامج الاشتراكي هو نتيجة الوعي الاشتراكي لأعضاء أي تنظيم. المؤتمر العام قادم ونتائجه ستبين بوضوح كُل هذه التساؤلات، ولكن نحن أمام حقيقة واحدة في كل الأحوال: إما يبقى التنظيم بورجوازياً صغيراً (ولا بأس بذلك، إن كان صادراً عن قناعة لكن عليه أن يعترف بذلك) وإما أن يكون تنظيماً اشتراكياً حقيقياً. هذا هو فعلاً النداء الأخير. النرد سيرمى وسننتظر.  


[1]   V.I.Lenin. Vol. 4 of The Collected Works of V.I.Lenin: 1898-April 1901 (Moscow: Progress Publishers, 1977), 229. MarxtoMao.

[ترجمتنا] 

[2] لطالما أكد ماركس، وانغلز، ولينين بأن الاشتراكية العلمية تسعى لتجاوز الديموقراطية. أما العدالة الاجتماعية والمساواة، فما على المرء سوى أن يتصفح (ضد-دورنغ) أو (الاقتصاد والسياسة في ظل ديكتاتورية البروليتاريا) ليرَ كيف سخر انغلز ولينين من فكرة العدالة الاجتماعية والمساواة. نحن نؤمن بإزالة الطبقات كُلياً، وعبارة المساواة لا معنى لها إطلاقاً إذ تدل على المساواة بين الطبقات. إن عبارة ”المساواة“ مقبولة في حدود أنها تدل إلى إزالة الطبقات والنظام الرأسمالي.

[3] دعنا لا ننسى بأن التناقض الرئيس هذا دائماً متحدد من قِبل التناقض الأساسي، وهو يكمن دائماً (بشكل ثابت) في التناقض ما بين البورجوازية الكولونيالية والبروليتاريا.