بعد مصادقة القيادة العليا للبلاد على نتائح الاستفتاء الشعبي على ميثاق العمل الوطني منتصف العام 2001 وما توافر في حينه من حريات نسبيّة على أكثر من صعيد، لعل أهمها حرية الصحافة والنشر والتعبير، بالإضافة إلى السماح بحرية تأسيس الأحزاب والتجمعات السياسيّة التي اصطلح لاحقا على تسميتها بالجمعيات السياسية، بالإضافة طبعًا للسماح بالعمل النقابي وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني وما سبق كل ذلك من تبييض للسجون، وما تلاه من انبعاث روح جديدة ميزت ما يتمتع به مجتمعنا البحريني بمختلف تياراته من ديناميكية وحيوية توجت باستعادة الحياة البرلمانية المتوقفة لأكثر من ربع قرن.
كان المؤمل بعد كل ذلك أن يستمر الزخم الإيجابي لتلك التحوّلات وحالة الانفتاح التي سادت المجتمع البحريني وكانت واعدة بالفعل بحسب ما قدمته من معطيات إيجابية للبحرين وشعبها خلال فترة وجيزة، خاصة وأنها تلازمت مع عهد سياسي جديد بكل ما حمله لنا من تطلعات مشروعة طال انتظارها، وبعد مرور أكثر من عقدين من الزمن يجدر بنا أن نستذكر بعضًا من جوانبها، باعتبارها فترة مليئة بالتطلعات والآمال.
ولعلّ أكثر ما يمكن متابعته في هذه العجالة هو ما آلت إليه مسيرتنا الديمقراطية على الأقل في شقها المتعلق بتطوّر الحياة النيابية تحديدًا، وهو الجانب الذي كثيرًا ما يعول عليه باعتباره قاطرة التحولات الرئيسية، وبما يجر معه من تحولات تلقائية وموضوعية، والذي يشكّل ما يمكننا أن نطلق عليه التجربة الديمقراطية برمتها.
واقع الحال يقول إننا أمام تجربة وليدة لكنها أضحت متعثرة بكل أسف في الكثير من تعرجاتها ومفاصلها بعد مرور أكثر من عشرين عامًا، وهي بعمر الزمن قصيرة نسبيًا، لكننا لا نستطيع أن نقبل ذلك بكل يسر وسهولة، فتجربتنا السياسية الزاخرة بالعطاء والتضحيات كانت بالفعل تستحق أن تستمر وتتطور بشكل أفضل مما هي عليه الآن، لا أن تعود وتتراجع للوراء قياسًا بحجم طموحاتنا الكبيرة علاوة على يختزنه شعبنا وقواه السياسية من تجارب ووعي ومقومات كبيرة كانت كفيلة أن تقود هذا المجتمع الصغير والحيوي إلى مساحات أرحب سياسيًا ومجتمعيًا.
إذاً ما الذي حصل حتى نتراجع ونحن الذين ابتدأنا مشوار الألف ميل بخطوات واعدة، لكنها لم تكن خجولة أو مترددة بادئ الأمر، ونحن الذين عشنا ولا نزال وسط تحولات إقليميّة كبيرة وجارفة، لكننا ارتضينا مع القيادة السياسيّة ومنذ مطلع الألفيّة أن نمتلك زمام المبادرة بالنسبة لقرارنا الوطني ونمضي، رغم معرفتنا كوطن بحجم التحديات محليًا وإقليميّا وحتى دوليًا؟!
باعتقادي أنه من الظلم إلقاء اللوم على جهة دون أخرى دون تحكيم العقل والمنطق والإقرار أولًا بمن يمتلك القرار ويؤثر فيه، فالجميع شارك بطريقة أو بأخرى في ما حصل من تراجعات، ولكن بدرجات ومستويات متفاوتة بطبيعة الحال، وطبيعي جدًا أن نقول إن ما كان ينقص تجربتنا هو الإرادة السياسية الفاعلة والصبورة التي تكتسب ديمومتها وزخمها المتعاظم من خلال قراءتها الواعية لموجبات ومتطلبات ودرجات الوعي المجتمعي، عوضًا عن الاكتفاء ببعض المظاهر والشكليّات التي لازلنا نتغنى بها دون الغوص في فهم ضرورات وأهميّة وجود تجربة ديمقراطيّة حقيقية قابلة للتطور مع الزمن، ومستعدة لتحقيق فهم أكبر لحاجتنا الحقيقيّة لتلك التجربة حتى تكون رافدًا مهمًا لأي تنميّة مستدامة ونهوض مجتمعي كنا ولازلنا نستشعر في دواخلنا إمكانيّة حدوثه.
أقول ذلك وأنا متابع باستمرار لما يعتري تجربتنا السياسية من تراجعات لا يجب أن نخجل أبدًا من الاعتراف بها، فطبيعة أي عمل سياسي جاد هو المراجعة الدؤوبة والمستمرة، لذلك نحن معنيون اليوم، وأكثر من أي وقت مضى بمتابعة ذلك والتأشير بشكل واضح على الإيجابيات بمثل ما نؤشر دون خوف وتردد على مسببات تراجع تلك التجربة، فهل برلمان 2018 الحالي هو بمقاييس برلمان 2002؟ وهل أداء القوى السياسيّة ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات هو بذات القوة والتأثير الذي تلا فترة إقرار ميثاق العمل الوطني .. ولماذا؟! والأهم من ذلك هل لازال الإيمان بوجود تجربة ديمقراطيّة متطورة هو ديدن المعنيين بتطور المسيرة الديمقراطية ممثلة في القيادات السياسية العليا ومعها القوى المجتمعيّة والتيارات السياسيّة؟!
أسئلة ستظل تبحث عن إجابات لا سبيل لنا أن نهرب من محاولة الإجابة عليها متسلحين بمحبتنا لهذه الأرض وشعبها.