قبل نحو أسبوعين توفي الكاتب والصحفي السوري وليد معماري، الذي يعدّ من أشهر الصحفيين وكتّاب القصة في سوريا، وارتبط اسمه بالكتابة النقدية الساخرة منذ سبعينيات القرن الماضي، واعتاد القراء في سوريا على مدار عقود على قراءة زاويته اليومية “قوس قزح” في الصفحة الأخيرة من صحيفة “تشرين” التي بدأ العمل فيها منذ 1976،
وإلى جانب كتاباته الصحفية التي تجاوزت حدود بلاده لينشر في صحف عربية، كتب معماري القصة القصيرة، وحاز جوائز عدة في مضمارها، وكانت الكتابة الأدبيّة عنده سابقة على الصحفيّة إذ نشر أولى مجموعاته القصصيّة (أحزان صغيرة) عام 1971.
بالإضافة إلى آلاف المقالات والزوايا الصحفية والمجموعات القصصية، كتب معماري مسرحيّات للأطفال، وسيناريو فيلم سينمائي (شيء ما يحترق)، ورأس تحرير صحيفة “الاسبوع الأدبي” التي يصدرها اتحاد الكتاب العرب، وكانت مجلة “مسارات” آخر المشاريع التي عمل عليها الراحل.
رحيل هذه القامة الصحفيّة والأدبيّة أعاد إلى أذهاننا مقالاً له كتبه عن الفنان والمناضل البحريني الراحل مجيد مرهون، عندما كان يقضي عقوبة السجن المؤبد، وكان لأعماله الموسيقية التي اخترقت القضبان، ووصلت إلى مسامع الناس في مختلف البلدان أثرها الكبير في لفت الأنظار إلى تجربته ومعاناته، وفي هذا الإطار جاء مقال وليد معماري الذي نشره، يومها، في زاويته اليومية في جريدة “تشرين”، وأعادت مجلة “الفجر” الناطقة باسم جبهة التحرير الوطني نشره في عددها رقم 70 الصادر في مايو / أيار 1987، وفيما يلي نصّ المقال.
المحرر
مرافعة البلبل في القفص
تكلّم فنحن نسمعك.. دق عل جدران زنزانتك لتصير ذراعاك فوهتي مدفع تسقط كل الزنازين.. إعزف على قيثارتك، سيحمل الحمام ألم وحدتك، وينشره ابتسامة لغد حرية.. مجيد مرهون.. أيها البحراني المعتق بخمرة شعبك. قل كلمتك وانتظر:
«أنا سجين في جزيرة «جدا»، وليس لدي أية إمكانيات، وبمعنى آخر ليست لدي أية آلة موسيقية، وظروفي صعبة وقاسية، ولكني أحاول التغلب على هذه الظروف بكتابة الموسيقى».
من سمع بهذا الاسم من قبل؟.. ها نحن نسمعه الآن، ونرهف حواسنا وقيمنا الحضارية لموسيقاه مطبوعة على اسطوانة رقيقة «ذكريات» عزفتها أوركسترا الإذاعة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية.
سبعة عشر عامًا في السجن.. والمدة المقررة له: مدى الحياة! والتهمة تفجير سيارة ضابط جهاز المخابرات الاستعماري في البحرين عام 1968.. ومُصدِرُ الحكم هو المحتل الأجنبي.. رجل المستعمر.
وبقى البلبل في الققص.. لا يملك إلا أصابعه، يعزف عليها، ويكتب ألحانها دونما آلة موسيقية.. مجيد مرهون.. أيها الصقر الجارح المقيد بالأصفاد.. تقدم إلى منصة الإنسانية وقل دفاعك..
أنا سجين في جزيرة «جدا».. أقف على نافذة السجن وأغني، فهل تسمعون صوتي أيها البشر؟ ولدت في بيئة فنية، وتشربت نغمات الموسيقى والإبداعات الراقصة، والمواويل الشعبية.. أنهيت دراستي الابتدائية عام 1958 والتحقت بمركز التدريب المهني في شركة نفط البحرين «بابكو» وتفوقت دراسيًا فيه، ثم أصبحت عاملًا في مصنع التكرير بالشركة.
أعزف على آلات متعددة: الأكورديون، والكمان، والفلوت، لكني متميز في العزف على الساكسفون، ومتميز في العزف على الوتر الثوري، والاندغام في لحن شعبي المكافح.. ولهذا كنت واحدًا من المشاركين البارزين في انتفاضة آذار 1965 ضد المحتل.. اعتقلت عام 1968، وبعد عام من العزف البريطاني الوحشي على جسدي بالسياط، حُكم علي بالسجن المؤبد بعد محاكمة صورية.. وما زلت أغني.. فهل تسمعون صوتي؟..
حصلت في السجن على شهادة تقديرية من الأكاديمية الملكية في السويد على أعمالي الموسيقية.. هل أسمعكم لحن «الحنين إلى الماضي» سأرسله لكم على جناح حرية.. هو تعبير عن خيالات الماضي الجميل، منطلقًا من خلال قضبان زنزانتي إلى أمس يبدو كأنه بعيد، له طعم خاص يعطيني الراحة العميقة.. ورغم وجود أنغام متداخلة، إلا أنها جميعًا توحي بوجود الصمت والوحدة القاتلة.. وحيد في الزنزانة، سوى صوتي الذي يعرش على الجدران الرطبة.. وما زلت أغني.. فهل تسمعون صوتي؟.
قادم من «العدامة».. هل تعرفون العدامة؟.. انقرض هذا الحي، وانقرضت فيه تلك البيوت الفقيرة المبنية من سعف النخيل.. أحرقوها.. لا يريدون رؤية وجه الفقر أمامهم.. لكن الفقر هو الذي انبتني عنيدًا، متمرسًا، صلبًا، وهذا لم ينف طبيعتي الفنية المرهفة، شفافيتي المفرطة، وإحساسي الجمالي بعذوبة الألحان، ولهذا عزفت للحرية، وغنيت للشمس، وما زلت في عتمة الزنزانة أغني، فهل تسمعون صوتي؟.
اسمي محيد مرهون، محكوم من قبل المستعمر البريطاني بسجن مؤبد.. خرج المستعمر، ولم أخرج من زنزانتي، أعزف على السكسافون.. وبسبب هذه الآلة أصبت بآلام حادة في أذني.. لكنني أعشقها، ذلك أنها قريبة من «الليوة» و «الفجري» و «الطنبورة» المنتمية بدورها إلى جذور تلتقي مع طبيعة الموسيقى الزنجية لعازفي الجاز.. ألحان «البلوز» الحزينة والعالية الروح، المعبرة عن جوهر زنوج أمريكا وهم يعملون على نهر الميسيسبي حين يغنون أغاني العمل.. وحين في المساء يعودون إلى أكواخهم ليبدؤوا أغنيات الليل الحزينة ملاءمة مع حياتهم الشاقة المريرة.. كذلك كان أبناء شعبي يعزفون على «الليوة» حين كانوا يحملون صليب عبوديتهم، ردحًا من الزمن عند سادات القبائل، وظلوا يسكبون أحزانهم في ألحانهم المثقلة بالكآبة والعذاب والمعاناة.. يصير الحزن إلى المناضل فيتحول في يده إلى سيف مبهر في صنعته وزخرفته ومعدنه، ويكون في الآن ذاته آلة جارحة بل قاتلة ضد المستغلين.. داهمني الحزن، لكنه لم يفترسني.. ماتت شقيقتي، وشريكتي في موسيقاي بين يدي، فلم تزدني المأساة الشخصية إلا رهافة، وتصميمًا على متابعة الدرب.
مازلت في سجني أدخل إلى الواقع بالخيال.. أحلم في يقظتي بالتحليق في فضاء رحب.. في مصافحة أيدي الكادحين الخشنة.. في سماع أنينهم وضحكاتهم.. وأحلم أني أغني ليومهم وغدهم، لا أخاف من التجديد والتطوير وكسر السائد، فأنا ضد الجمود والتخلف في الموسيقى، ضد أن يظل وطني على هامش الحضارة العالمية.. أبطال موسيقاي يعانون في الحياة، ويواجهون الصعوبات.. بشر محملون بالآلام يتجاذبهم اليأس والأمل.. هل استمعتم إلى مقطوعتي ازميرالدا؟ نعم هي بطلة «هوغو» التي ولدت معاصرة فيّ. هل وصلكم لحن «رسالة مسجونة»؟ لا بتحثوا عن السر، فواقعي له جاذبيّته غير المرئية.. إني أبحث عن الحبيبة بالتذكار المجنون للحب، البعيد في صراعه مع الرياح والقراصنة، الحب ينتصر على الحرب والأمل أقوى من اليأس.. ولهذا أغني فهل تسمعون صوتي؟.
أنا مجيد مرهون البحراني، سجين «جدا».. أحييكم بحب.. الشمس تطلع من الشرق، والعصفور يحب الفضاءات ويكره أقفاص العبيد.. فانتظروا جناحي..