اتبع الرئيس التركي، رجب طيب اردوغان، في سياسته الخارجية، نهجاً متطرفاً للغاية، متحدياً دولاً أقوى من بلاده بكثير. يتشابك هذا النهج مع التكتيكات التى اتبعها هتلر، قبيل هجومه على الاتحاد السوفيتي، في نهاية الحرب العالمية الثانية، أي اللعب على التناقضات مع خصومه، أملاً في ألا يسمح كل منهم بتدميره، بغرض إستخدامه ضد طرف ثالث.
تتحول النواقص في هذه اللعبة جزئياً إلى إيجابيات، فمشكلات أنقرة مع واشنطن تثلج صدر موسكو، واشتباكات تركيا مع روسيا في سوريا وقرة باغ في أوكرانيا مفيدة لواشنطن، وهكذا. في هذا النموذج، يضطر اللاعب للحفاظ على حالة من التعاون والتنافس الشديدين مع الجميع في نفس الوقت. علاوة على ذلك، فمع دخول المزيد من اللاعبين المضاربين الآخرين إلى الحلبة في مثل هذه العلاقة، يصبح من الأسهل الحفاظ على التوازن والمناورة.
لذلك، وكما كتب المحلل الروسي الكسندر نازاروف، فلا عجب من أن الجميع يكرهون الرئيس اردوغان، إلا أن الكل يحتاجه لغرض ما. ومع ذلك فالعيب الكبير غير موجود لدى تركيا. بالإضافة إلى ذلك، لم تكن هناك موارد كافية منذ البداية، بينما انخرط اردوغان في هذه اللعبة جزئيا، تحديدا للحصول على هذه الموارد، وعلى رأسها مواد الطاقة، حيث لا تملك تركيا نفطاً أو غازاً خاصا بها، وتعاني من فجوة مالية هائلة في وارداتها، تزعزع استقرار البلاد وتهدد النظام.
المحصلة النهائية هي دوامة، تتطلب فيها كل جولة النضال من أجل الموارد، حتى تنتهي لعبة الإقتصاد التركي الصغير نسبيا بالهزيمة على الأرجح عاجلا أم آجلا. فالوضع الاقتصادي في تركيا متعثر، إلا أنه لايزال حتى اللحظة تحت السيطرة. وقد بلغ العجز في موازنة الدولة التركيّة، في الفترة من يناير الماضي إلى يوليو 9,8 مليار دولار، ومع أن الوضع الآن قد أصبح افضل بكثير مما كان عليه إبان الحجر الصحي عام 2020 ، إلا أنه يشبه المقارنة بين الموت رميا بالرصاص، أو جراء إنفجار نووي. تتعدد الاسباب والموت واحد. والنتيجة هي افلاس تركيا.
واذا كان لدى الدول الغربية، مؤقتا، إمكانية طباعة نقود غير مغطاة، فإن معضلة كيفية تمويل مغامرات السياسة الخارجية وعجز الموازنة بالنسبة لرجب طيب اردوغان حادة للغاية، لاسيما بالنظر إلى العلاقات الرديئة مع سيد النظام العالمي، الولايات المتحدة الأمريكية، ومحاولة منه للعثور على المال، يصيب الرئيس اردوغان النظام المالي في مقتل، من خلال إجبار البنك المركزي للبلاد حرفياً على طباعة النقود غير المغطاة، وخفض أسعار الفائدة إلى مستوى اقل من مؤشر التضخم، لتحفيز الاقتصاد.
يقود هذا الكلام، في رأي الاقتصاديين، إلى أن المعروض النقدي زاد بنسبة 18% من اكتوبر حتى سبتمبر 2021. في حينها أقال اردوغان ثلاثة من أعضاء لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي، ممن عارضوا خفضاً آخر في سعر الفائدة الأساسي إلى 18%. وخلال السنوات الماضية، قام اردوغان بتغيير رؤساء البنك المركزي للبلاد عدة مرات.
وعلى هذه الخلفية تراجعت الليرة التركية بنسبة 30 % اي11,3 ليرة للدولار الواحد ،في حين يحاول البنك المركزي في البلاد دون جدوى، احتواء سقوط الليرة من خلال الإنفاق من احتياطي البلاد. توالت خسائر الليرة التركية دون نتيجة إيجابية لقرارات البنك المركزي أو حكومة العدالة والتنمية لوقف نزيفها. وفي ظل هذه الخسائر تعالت أصوات المعارضة محذرة من تبعات الإنهيار العظيم غير المسبوق للعملة الوطنية دون مجيب، ولم تفلح شكاوى المواطنين من الإنهيارالاقتصادي بما في ذلك زيادة معدلات البطالة والفقر.
ووفقاً لصحيفة “تركيا الآن” المعارضة يرى رئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كليتشدار أوغلو، أن قرار البنك المركزي بتخفيض معدلات الفائدة يؤدي إلى افقار البلاد موضحا أن “نتيجة تفاخر اردوغان بكونه خبيراً اقتصادياً، أدى إلى زيادة الفقر في البلاد وغلاء الأسعار وتراكم فواتير باهظة على المواطنين”، وعلى صعيد مشكلة البطالة شكك إتحاد نقابات العمال التقدمي التركي في النسبة الرسمية المعلنة من قبل الحكومة عن البطالة، وكشف عن أن الأرقام الخاصة بالبطالة أصبحت صادمة، حيث أشار إلى أن الأرقام الحقيقية تؤكد أن نسبة البطالة قفزت إلى أكثر من ربع السكان، لافتا إلى أن البيانات الشهريّة التي تصدر حول البطالة لا تحتوي على عديد من التفاصيل التي كانت تغطيها منهجيّة معهد الإحصاء التركي قبل ذلك.
وكان معهد الإحصاء المذكور قد أعلن أن معدل البطالة في تركيا ارتفع من 10,6 في المئة في يونيو إلى 12 في المئة بحلول يوليو بواقع زيادة تقدر 3,9 مليون شخص. بينما شدد إتحاد نقابات العمال التقدمي على أن النسبة الفعلية تبلغ 23,6 في المئة للرجال و 29,6 في المئة للنساء. كشف البنك الدولي في تقرير حديث عن إرتفاع معدل الفقر في تركيا للعام الثاني على التوالي، كما كشفت تقارير عن قفزة بحد الجوع وزيادة حالات الانتحار بسبب الظروف المعيشية الصعبة. وذكر أن معدل الفقر في تركيا ارتفع ووصل إلى 12,2 في المئة عام 2020 بعد أن كان 10,2 في المئة عام 2019، مشيراً إلى أن جائحة كورونا تسببت في خسائر فادحة للاقتصاد التركي.
وكشف تقرير لحزب الشعب الجمهوري عن زيادة حالات الانتحار لأسباب إقتصادية بنسبة 38 في المئة خلال الفترة من 2017 وحتى 2019 .أما فيما يتعلق بديون تركيا تشير البيانات الرسمية إلى ارتفاعها 109 في المئة خلال 3 سنوات، حيث قفز الدين العام إلى( 112,131 ) مليار دولار في يونيو من عام 2018 إلى( 234,313 ) مليار دولار في يونيو الماضي. بزيادة بلغت( 122,180) مليار دولار حسب INDEPENDENTعربية.
المراد قوله هنا بإيجاز هو أن تركيا تشهد أزمات اقتصادية بسبب السياسات الخاطئة التي يسير عليها نظام اردوغان، والتى تسببت في اقتراب البلاد من الإفلاس جراء إنهيار عملتها، وعدم قدرتها على سداد الديون الخارجية، وتراجع نموها بالسلب. وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر والتضخم لأرقام غير مسبوقة. والمعضلة الأخرى، أن إدارة اردوغان للدولة التركية، وتدخلاته في شؤون البلاد الأخرى مثل سوريا وليبيا والعداء مع الكثير من الدول، أدى إلى استنزاف الموارد التركية وتدمير الإقتصاد، انعكست بالسوء على حياة المواطن التركي في مختلف المجالات، وهو ما يطرح أهمّ الأسئلة: هل يصل الإقتصاد التركي المتعثر إلى إسقاط اردوغان؟
About the author
كاتب بحريني وعضو التقدمي