ما سبب البطالة؟ التقدم التقني، أم خلل أساسي في التوزيع؟ يقال بعامة: إن البطالة ناجمة عن تقدم العلم والتقنية، أي تقدم وسائل الإنتاج، وهذا ما يزعمه الخطاب السائد. هذا الخطاب صحيح تماما في الظاهر، أي هكذا تبدو الأمور على السطح. لكن ما هي الحقيقة؟ فليس من شك اطلاقا أن استخدام وسائل إنتاج أكثر تقدما يؤدي بصورة إجمالية إلى زيادة الإنتاجية، وبالتالى إلى خفض كمية العمل اللازم للانتاج وخلق فائض من الوقت، وقت الفراغ الذي يمكن تخصيصه لأغراض أخرى.
هذا، أصلا، أحد الأهداف الرئيسية للتقدم التقني، وهو يؤديها بنجاح تام. أما ما هو مصير هذا الفائض من الوقت الذي يحرره التقدم التقني من عملية الإنتاج، فتلك هي المسألة. وهذه المسألة ليست من مسؤولية التقدم التقني، وإنما هي من مسؤولية النظام الإجتماعي، ومن مسؤولية الإنسان العامل ذاته، فهما اللذان يقرران مصير الفائض. وهنا يكمن لبّ المشكلة كلها، لبّ الحقيقة التي يبرزها التقدم العلمي بجلاء، والتي يأتي الخطاب ليخفيها ويزيفها. ماذا نفعل بهذا الفائض؟
تلك هي المسألة الجوهرية التي تحددها مجمل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السائدة، أي “النظام العالمي” فإما أن يستخدم كتلة الوقت الفائض لخير الإنسان والبشرية، فيكون نظاماً اجتماعياً جيداً، تقدمياً يمثل مصالحها تمثيلاً صحيحاً، أو على العكس من ذلك، يستخدمها لأغراض أخرى غير نافعة أو ضارة، ويكون عندئذ نظاماً اجتماعياً سيئاً، لاعقلانيا، وباليا.
يقول الاقتصادي السوري د. رزق الله هيلان إن للإجابة على هذا التساؤل، وفقا للخطاب المذكور، هي بالإيجاب وهي واضحة نظرياً وعملياً، ولا تترك مجال للشك. فالممارسة الرأسمالية في جميع البلدان الغربية تثبت صحة ذلك صراحة دون لبس، حيث الدولة الرأسمالية لا تسعي إطلاقا إلى وضع حل صحيح ونهائي لمشكلتي البطالة والفقر، فهي تدرك تماماً أن مثل هذا الحل ليس مرغوباً من قبل سادة النظام من ناحية، وهو مستحيل عملياً في إطاره من ناحية أخرى.
في هذه الحال ألا يغدو التقدم العلمي والتقني مناقضاً لغايته التي هي خدمة الإنسان وراحته ورقي شخصيته، وتكون زيادة الإنتاجية ضد مصلحة العامل، دون معنى، بل ذات معنى لا إنساني؟ أم نعيد إستخدام الفائض في مجالات إقتصادية أخرى، أي في توسيع العملية الإنتاجية لإشباع الحاجات بشكل أفضل، وبخاصة الحاجات العليا التي تعطي معنى للحياة، من ناحية، ولزيادة أوقات الفراغ اللازمة للتمتع بالحياة والراحة والفنون، والإهتمام بالأسرة والأصدقاء وبالامور الشخصية، وممارسة الأنشطة الإجتماعية التضامنية التي تحقق غاية إنسانية جميلة ونبيلة، وما شابه ذلك؟
أليس هذا هو المنهج الصحيح الواجب تطبيقه لامتصاص فائض العمل كله وتقليص البطالة، أو إلغائها؟ أليس هو الحل الأفضل بل الوحيد الذي تفرضه نظرية إقتصادية – إجتماعية – أخلاقية هدفها وغايتها خير البشر وتناغم المجتمع والتقدم الإنساني؟ أليس في هذا بالضبط يكمن العلم الاقتصادي؟
لكن مثل هذا العمل يناقض النظرية الراسمالية التي همها الأول حرية السوق والمنافسة والربح والسيطرة وتراكم الثروة في أيدي الأقلية، وحرمان الغالبية من البشر والشعوب من ثمار العمل والتقدم العلمي التقني.
وفي ضوء ما تقدم يستخلص أنه ليس من شك بأن النظام الرأسمالي ذاته اضطر إلى السير في الاتجاه الصحيح إلى حدٍ ما، حيث حقق بعض التقدم في أمور كثيرة، لكنه فعل ذلك جزئياً فقط، وببطء شديد، ومرغماً تحت ضغط الصراع الإجتماعي. هذا ما يثبته لنا الواقع التاريخي، حيث نجد أنه منذ الثورة الصناعية البرجوازية تضاعفت بمئات المرات القوى العلمية التقنية ووسائل الإنتاج، كما تضاعف مراراً حجم سكان العالم ومنه بالدرجة الأولى سكان الدول الصناعية ذاتها التي تلجأ إلى “إستيراد” عشرات ملايين العمال والفنيين من البلدان الأخرى، لكن بالرغم من ذلك ازداد بأضعاف حجم العمالة وتم تخفيض ساعات العمل اليومي وانخفض إلى حدٍ كبير العناء والمشقة في الأعمال اليدوية والذهنية.
هذا من ناحية. لكن من ناحية أخرى، وهي الأخطر بكثير، فإنه ذلك يجري اليوم بشكل مشوه، وضار، حيث تؤجج الدعاية التجارية أنواعا من البذخ والهدر الاستهلاكي ذي الآثار السيئة، اجتماعياً وبيئياً واخلاقياً. والحقيقة يظهر بوضوح أنه ليس ثمة حل صحيح لمشكلتي البطالة والفقر في إطار الراسمالية، حيث تكتفي الدول بإدارة هاتين المشكلتين، وتحمل تكلفتهما الباهظة وإلقاء عبئهما الأكبر على المجتمع وعلى البلدان المستضعفة، وذلك من أجل منع تفاقمهما وتحولهما إلى أزمات إجتماعية – سياسية عاصفة.
وفي حال تفاقم المشكلة إلى مستوى من الخطر يصعب السيطرة عليه، والركود وتعطيل قسم كبير من الطاقات الإنتاجية، وسباق التسلح والحروب، كما حدث مثلا في الأزمة الإقتصادية الكبرى في الثلاثينات من القرن العشرين، حيث وصلت معدلات البطالة في الدول الغربية إلى 20- 25% من مجموع قوة العمل، فكانت أحد الأسباب للانفجار الأوروبي في عام 1939، وكما حدث كذلك خلال ما سمي بالحرب الباردة التي كانت في احد أهم وجوهها غطاء لإلقاء عبء الأزمة الإقتصادية الرأسمالية على بلدان العالم الثالث والبلدان الاشتراكية السابقة من خلال تأجيج المنازعات والتوتر الدولي والحروب الإقليمية، وبالتالي تسعير سباق التسلح في العالم.
والدليل الفاضح على ذلك، هو الصراع الشديد بين الدول الرأسمالية المصدرة للسلاح، لاقتناص الصفقات الدولية الكبرى من أسلحة وعتاد، وأساطيل حربية ومدنية، ومشاريع إقتصادية كبرى، وغيرها. أما البلدان الفقيرة، فمثل هذه السياسات ترهق شعوبها اقتصادياً وسياسياً، حيث تشكل أحد أهم أسباب تبديد الموارد، والفقر، وعسكرة المجتمع وممارسة القمع وانتشار الفساد، لذا فإن هذه السياسات التي تفرضها العلاقات الدولية السائدة وتفرضها عليها بخاصة، وبشكل مباشر وفج في كثير من الأحيان، القوى الكبرى والأنظمة المرتبطة بها، تشكل جريمة لا تغتفر بحق الشعوب الفقيرة وبحق البشرية ككل.
هكذا تبرز لنا ظاهرة البطالة كتعبير عن سوء العلاقات الإجتماعية واجحافها، كوجه آخر لسوء توزيع وتقسيم العمل الإجتماعي، وسوء توزيع الدخل والثروة، على المستويين المحلي، وعلى المستوى العالمي بين الدول الغنية والفقيرة. وبالتالي يتضح لنا أيضاً، البطالة والقهر والحرمان التي تشكل آفات إقتصادية وإجتماعية وأخلاقية معا، ليست نتيجة طبيعية للتقدم التاريخي، وبخاصة ليست نتيجة حتمية للتقدم العلمي والتقني، كما يزعم الفكر المحافظ المدافع عن المصالح والامتيازات المكتسبة ضد منطق العلم والتاريخ، وانما هي ناجمة عن فساد وجور وخلل أساسي في النظام الإجتماعي السائد، في العملية الإقتصادية – الإجتماعية كلها الجارية اليوم في ظل العولمة وعلى جميع الصعد، الدولية والاقليمية والمحلية. هذا ما تذكرنا به تقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة سنويا، داعية الجميع، حكومات ومنظمات وشركات، إلى توجيه جهودها لتصحيح الخلل وبناء علاقات أكثر عدلاً وانسجاماً. لكن هذا “الجميع” لا يعني أحداً من الأحياء بالذات. فالمحرومون المهمومون بخبز يومهم، صوتهم لا يسمع. والأسياد غارقون في ترفهم وحساباتهم المصرفية.
About the author
كاتب بحريني وعضو التقدمي