على مقهى الوجودية. كتاب من النوع الذي تحلو قراءته كلما أوغلت فيه، وتكمن أهميته في أنه لا يعرض أفكارًا وحسب، بل يمنحنا صورةً بيوغرافية عن فلاسفة الوجودية الذين ساهموا في صعودها منذ عشرينات القرن العشرين وحتى سبعيناته: “هوسرل، هيدجر، سارتر، بوفوار، كامو، ميرلوبونتي، وغيرهم…” وبالتالي فأنت لا تقرأ فيه مجرد أفكار الفيلسوف، بل: الطفولة، التجارب العاطفية، والسياق الجيوسياسي الذي يعيش فيه: من حروب، ونكبات، وهجرات تصنع أفكاره”.
لقد كانت سارة باكويل ذكية في منهجها ذاك؛ باعتبار الوجودية فلسفة وصفية تنطلق من الواقع العيني أولًا وليس المجرّدات – أو على حد تعبير ميرلوبونتي: الحياة تصير أفكارًا، والأفكار تعود إلى الحياة. – فهي بالتالي تبدأ طريقها من تجربة الفرد مع الأشياء داعيةً إيّاه للتحرر قدر الإمكان من المسبق الجاهز، أو كما يقول هوسرل: الفلسفة تبدأ بالدهشة، والدهشة لا تبدأ إلا عندما نعلِّق الحكم. ذلك الحكم الذي يأتيني من تجارب عينية سابقة، والتي تكون في أحيان كثيرة بمثابة حجاب يمنعني من النظر لحقيقة الأشياء. حين أبدأ بتعليق الحكم فقط يمكنني أن أتفلسف، أي أطرح الأسئلة، فأصف الأشياء وأعيشها كما أريد أنا “ندائي الداخلي” لا كما يريد الآخرون “الهُم” بحسب تعبير هيدجر.
جعل ذلك من الوجودية فلسفة رائدة، تُعنى بقضايا الهامش “الأقل حظًّا”: النسوية، حقوق الشواذ والأقليات، تكسير الحواجز الطبقية، والكفاح ضد العنصرية والاستعمار. رغم ذلك، فهذا لا يعني أنك تقرر مع أي اتجاه ستكون وإلى الأبد، لأن العالم يغير من شكله دائمًا، وأنت في كل يوم أمام مسؤولية تُثقِل كاهلك، وهي مسؤولية حريتك وخياراتك التي تحدد فيها: انتماءك إلى من، إلى أين، أو ربما إلى لا أحد كما عبّر كامو في موقفه على أعقاب الاحتلال الفرنسي للجزائر، حين قال: “الناس يزرعون الآن القنابل في عربات الترام في الجزائر، وأمي قد تكون في إحدى هذه العربات، وعلى افتراض أن هذا هو العدل، فسأختار أمي”.
قد يبدو هذا الموقف غريبًا ومحيرًا من مواطن ذي أصول جزائرية، إلا أنه واقعي مع فيلسوف يحمل قيمًا صعبة المنال، فلم يرَ في الوجود البشري إلا شؤما يكرر نفسه دون خلاص. وهذا الموقف الأخير هو ما جعل سارتر المتفائل والفعّال يزدريه ويتهكم من موقفه بعدما كانوا أصدقاءً خُلَّص. ما يميز الوجودية على سائر الفلسفات، أو على الأقل بالطريقة التي قدمتها سارة باكويل، هو أن مبادئها لا تقدم لنا طبقًا جاهزًا نغرف منه جميعًا ذات الطعام، بل يقدم فيها كل واحد نفسه بأصالة كما يجب أن تكون، فمنها المؤمن والملحد، المتفائل والمتشائم، الفاعل والمنسحب إلى أعماق ذاته، جاعلًا من موقفه ذاك أخير ما يمكن أن يفعله إنسان.