عن ما تبقى من مهنة منقرضة

2
149

حكايات من زمن صحفي مضى

قد يطيب للبعض التفرغ في خريف العمر وكتابة مذكراته أو سيرته الذاتية المهنية، أملاً في إسداء الفائدة أو الخبرة للأجيال الجديدة، لكن ماذا إذا تبيّن لك أن المهنة التي خلفتها وراءك لم تعد موجودة، أو أنها انقرضت بشكلها ومفاهيمها القديمة؟

ستكون المذكرات والسير القديمة مجرد إطلالات تاريخية وتوثيقية لمهن وأعمال من الماضي، على سبيل المثال أين اليوم مهنة كمهنة الصحافي الباحث عن الخبر الجديد والمختلف وغير المسبوق في مهنة تعكس واقع الحياة في السراء والضراء في عالمنا الجديد؟

أقول هذا الكلام ناصحة زملائي الصحفيين من الأجيال الجديدة الخروج من صندوق الرتابة والتشابه والتماثل حدّ التماهي بين صحفنا الورقية والإلكترونية بعد أن صارت أخبار البشر والحجر والوزرات والهيئات تصل من مصدر واحد فقط هو مركز الاتصال الوطني وهو الذي يقوم بتوزيع النشرات الصحفية على جميع الصحف بالتساوي، الأمر الذي أفقد الصحف قدرتها التنافسية وهويتها وشخصيتها وتوجهها الخاص بها وحال دون معرفة الواقع على حقيقته دون رتوش أو تجميل أو اختصار أو اختزال، ولقد أردت اليوم أن اروي للقراء جزءاً يسيراً من رحلة الصحافة مع اقتناص الخبر في صحافة سابقة، صحافة سادت ثم بادت. 

في حكاية خبرية وأثناء ما سمي بحرب الناقلات اثناء الحرب العراقية الايرانية عام 1984 برزت إلى السطح قضية تلوث بحر وسواحل الخليج بالانسكابات النفطيّة الناجمة عن ضرب السفن المحملة بالنفط، تشكلت بقعة نفطيّة كبيرة بلغت بعض سواحل الخليج ومنها البحرين، سميت في الصحافة ببقعة الزيت، وقد تأثر المحصول السمكي بهذه البقعة، رغم أن البحرين ودول خليجية أخرى استخدمت أجهزة خاصة على السواحل لامتصاص الزيت وحماية البيئة البحرية من التلوث، إلا أن السمك تأثر بشدة، وكانت الصحافة على اتصال مع الصيادين والأجهزة الرسمية المختصة بعد أن تحوّلت القصة إلى قضية رأي عام فأقيمت عدة مؤتمرات صحفيّة شاركت فيها وفود من إيران والعراق في محاولة لإبعاد بيئة البحرين عن الصراع الدائر.

وقتها جهزت وزارة الداخلية رحلة جويّة على متن طائرة الهيلوكوبتر خصيصا للصحفيين ومراسلي وكالات الأنباء لتصوير البقعة من الجو، وقد لعبت الصحيفة الوحيدة وقتها (أخبار الخليج) دوراً مهماً في متابعة هذه الانسكابات النفطيّة والكتابة عن أخبارها يومياً، وطمأنة الرأي العام حول صحة الاسماك وكيفية معرفة الأسماك الملوثة وتجنبها بالتعاون مع لجنة حماية البيئة، وعكس ذلك نوعاً من التفاعل الخلاق بين الصحيفة وقراءها والأجهزة الرسمية التي كانت وإلى حد كبير مساندة ومتعاونة مع الصحافة.

وفي 23 أغسطس من عام 2000 سقطت طائرة “طيران الخليج” وقضى ركابها ال143 نحبهم، كان الوقت مساء وفي يومٍ شديد الحرارة، مع ذلك توافد  الصحفيون والأهالي لموقع السقوط وتبارت الصحيفتان وقتها، “الأيام” و”أخبار الخليج”، لسرد الحكايات والتواصل مع أهالي الضحايا على مدى عدة أيام، وامتثلت الصحف لتجنب الخوض في أسباب الحادث انتظاراً للنتائج، فصحافتنا لم تخرج يوما عن الطاعة والامتثال للأوامر الرسمية الفوقية المتعلقة بالأمن والسلامة المجتمعية، رغم ذلك حظيت الصحافة بصيدٍ صحفي وفير وحكايات وتفاصيل عديدة لا نجد لها اليوم مثيلاً في صحافتنا التقليدية.

وفي 23 اغسطس اخر من عام 2004 استيقظت البحرين على الانقطاع الكبير للكهرباء الذي شمل أغلب مناطق البحرين فيما سمي لاحقا بـ “الاثنين الأسود”، الذي تسبب في خسائر مادية كبيرة، وكان يوماً غير مسبوق في تاريخ بلدنا، وقد تبارت الصحف الثلاث وقتها، “أخبار الخليج”، “الأيام” و”الوسط” على تغطية الحدث وارتداداته وتداعياته وخسائره، وتحدثت مقالات الرأي عن الإهمال والتقصير لدى جهاز الكهرباء في ذلك الوقت والذي لم يستعد ليومٍ كهذا، وكانت تجربة قاسية وذات دروس بليغة. 

تخيّلوا لو أن أحداثاً مماثلة تقع مجددا في بلدنا (لا سمح الله) وتأتي الأوامر إلى الصحافة بالامتناع عن النشر أو الانتظار والتريث وعدم التصريح من قبل أي وزير او مسؤول لأي جهة أو منصة الكترونية إلى أن يصل خبر مركز الاتصال الوطني، كيف سيكون الحال في ظل سيادة صحافة المواطن حيث يتجول الناس بهواتفهم وكاميراتهم وحواسبهم، يكتبون ويلتقطون الصور والأفلام ويبثونها في الحال على وسائل التواصل الاجتماعي؟، فأمام هذه المنافسة الشديدة ماذا سيفعل الصحفي الموظف الملتزم، وأنى له أن ينتظر وكيف وإلى متى؟ 

إن الصحافة المؤسسية جدير بها أن تمتلك من الحرية والصلاحيات والثقة ما لا يمتلكه غيرها، فهي ستظل الجهة القادرة على الحصول على التصريحات الرسمية المؤكدة وبسط الحقائق الصحيحة في أسرع وقت والتشارك مع الناس المعنيين بالأحداث لصنع وانتاج القصة الخبرية الموثقة ومنح الناس الحق في توجيه النقد وطرح الأسئلة والحصول على الرد، بيد أن ذلك لا يتحقق على أرض الواقع، فالصحافة التي كان ديدنها الحركة والتفاعل السريع صارت هي التي تجلس بانتظار خبر واحد يتيم يعمم على كل الصحف، وبذلك تكون الصحافة الملتزمة بخط الدولة وتوجهات الحكومة هي الخاسرة في هذه المعركة غير المتكافئة مع الإعلام البديل التعددي والمتنوع. ألم أقل لكم في بداية المقال إنني أتحدث عن مهنة منقرضة، مهنة جرى احتواءها وإخضاعها بالكامل لمنظومة مركزية صارمة، وتسبب هذا الاحتواء في تقويض الصحافة.

من كان يتصور أن صحافتنا التي حققت قفزات نوعيّة في محتواها وتنوعها وتعدد أراءها واجتهاداتها على مدى السنوات الماضية – بما فيها فترة سريان قانون أمن الدولة – تبلغ هذا المستوى الهزيل؟ ومن يعوضنا جميعا عن هذه الخسارة؟ 

2 تعليقات

  1. ماذا أنجزت الصحافة المحلية وغيرها في الوطن العربي غير الكذب وتعظيم لما هم يلودون به من غير التجرد لأنتمائم … أنهم يهللون تاره للتيارات الأسلامية وتاره التيارات القوميه وتاره للتيارات الإستراكية…هراءا ما يدعون أنهم ينتمون للصحافة المجرده من غير مصلحة فالصحافة
    هي المهنة التي تقوم على جمع وتحليل الأخبار والآراء والتحقق من مصداقيتها وتقديمها للجمهور، وغالبا ما تكون هذه الأخبار متعلقة بمستجدات الأحداث على الساحة السياسية أو المحلية أوالثقافية فأين هم من كل هذا…

Comments are closed.