قال الكاتب الفلسطيني جمال زقوت: “ماذا نكتب، وعن ماذا نكتب؟ فهذا المشهد، مشهد الدمار والقتل والموت وعدد الضحايا الشهداء منهم والجرحى، عشرين أو مئتين أو ألفين فهم في نظر النفاق الدولي مجرد رقم بات متكررا لمشهد الإيغال في دمنا”. وأضاف: “بماذا ندبج مقالاتنا؟ بمشهد قيادة تعيش ملهاة الصراع على مستقبل تعبث به حد الانهيار، ولا تملك من أمرها شيئا كي تحتفظ بكرسيها سوى كلمات باهتة متكررة، ثم تذهب لمتابعة الأخبار بقلق، ليس على المستقبل أو الضحايا، بل على خيبتها وتراجع شعبيتها وفقدان أهليتها.
“هذا المشهد وبتفرعاته الإنسانية المؤلمة هو مشهد متجدد. فقد شهدت غزة منذ انقلاب وانقسام حكامها خمسة حروب عدوانية، وهذه هي الحرب السادسة. فعن ماذا نكتب؟ عن المشهد الإسرائيلي واحزابه المتصارعة على دمنا، لتحصد من أرواحنا أصواتا ومقاعد برلمانية في معركتها الانتخابية، أو مزيد من عطاءات الوحدات الاستيطانية فوق صدورنا، ثم تسميها ديمقراطية واحتها المتفردة التي تتباهى بها في هذه المنطقة، وهي مختنقة بدم أهل وأطفال هذه البلاد. فهذا المشهد أصبح من يوميات حياتنا التي يتسابق فيها المستوطنون “الأكثر تشددا” في قتل أطفالنا واجتثاث زيتوننا وسرقة مياهنا ومحاولة إلغاء وجودنا، مع المستوطن “الأقل تشددا” وهو يسوق بلغة التزييف والتزوير لما يسمى حق إسرائيل أن تقتل أطفالنا، فهذا بالنسبة لهم “دفاع عن النفس“ وهي “تحمي أطفالها”.
“فالطفل الفلسطيني الذي هجر أجداده من يافا وحيفا واللد والرملة وأسدود والمجدل وغيرها، سيكون يوما فدائيا كما كان المسيح يوما، وتسميه إسرائيل إرهابيًا، ولذا فهو لا يستحق الحياة، بينما الطفل الذي ولد اجداده في دول الغرب وحتى في أثيوبيا، وصادروا من أجل رفاهيته مستقبل أطفال فلسطين، سيكون طيارا حربيا في سلاح جيش إسرائيل الجوي، مكلفا بحماية نقاء هواء يهودية إسرائيل وأجوائها من الفلسطيني. فهذا المشهد يعيشه مخيم جباليا والشابورة ومعها مخيم جنين وبلاطة، وعين الحلوة وغيرها من مخيمات اللجوء. وقد دون الأدباء والكتاب عن هذه المشاهد روايات وشهادات، وليس فقط مقالات في زمن حكام أمة الضاد، والذين لا يريدون أن يقرأوا عن ذلك شيئا.
إذن عن ماذا نكتب اليوم؟ هل نكتب عن حكام غزة الجدد الذين للأسف يتنافسون مع ” أخوتهم الاعداء” من حكام الضفة، أيهما الأكثر “عقلانية” وأحقية بعطاء القدرة على الوكالة الأمنية وحدودها وامتيازها، ودقة الإيفاء بمتطلبات المناقصة؟ أم عن وهم كي الوعي الذي تتوهمه إسرائيل بعد نجاحها في إخراج المهيمنين على “الحكم” وطبقتهما السياسية من ” دائرة الصراع”، واستبداله بثمن امتياز الوكالة الأمنية لإدارة ” سجن غزة” ونوعية التسهيلات الممنوحة من طعام وشراب وموبايل وعدد الزيارات، أو تلك التي تقدمها لحكام الكانتونات قيد الإنشاء. هذا كله لم يعد يجذب القراء، فقد باتت بالنسبة لهم بضاعة فاسدة وراكدة لا يتداولها أحد. فما الذي يستحق الكتابة والاهتمام؟! الثابت الوحيد هو الصمود، وكيف أن هذا الشعب كلما أغرق في دمه كلما أجبر على جعله زيتا يعينه على استكشاف الطريق، كي ينهض مجددا كطائر العنقاء من تحت رماد الموت، ويحمل بإصبعيه المتبقيين في يده الجريحة علامة النصر رمزية أن قضيته حية ومستمرة في صعودها ولن تموت، وبهذا فإن إسرائيل العنصرية الهاربة من تاريخها الدموي في كفر قاسم ومخيم رفح والسموع وبحر البقر، تهزم نفسها بسلاح موتنا. عقلانية حكام غزة “مفاجئة” والتي
تذكرنا بصمتهم أربعين عاما بعد النكبة، وصمت حكام رام الله الغارقين في سباتهم، لن تكسر ذلك الشاب في غرفة التحقيق، وهو يتقن صمتا مختلفا، متسلحا بإغلاق فمه وإشهار عناده حتى لو سقط شهيدا تحت التعذيب أو القصف الهمجي سيان. فكلاهما يستهدف إرادته وكي وعيه؛ إلا أن قرار الأجيال الجديدة التي تستولد تجربتها الخاصة “لن يمروا”. فالحرب لم تستهدف فصيلا بعينه، بقدر ما هي حرب على شعب فلسطين وقضيته ومستقبل وجوده، ولذا فالهزيمة والاستسلام ليس خيارا.
هذا هو المشهد الحقيقي الذي يستحق الكتابة ولا شيء غيره، فهو مخزون ذاكرة الألم والصمود، وحصن القلاع التي لن تنهار. أما السؤال الحقيقي لهذا المشهد، فهو كيف نعيد بناء عناصر القوة التي تخرجنا من جحيم الحروب والاحتلال والانقسام، وتخرج إسرائيل أيضا من عنصريتها وهستيريا الفاشية التي تنمو في جنبات احتلالها، وكيف نمكن شابا ناجيا من دمار غزة أوشابة حالمة بالحياة في القدس والناصرة أن يأخذونا إلى بر الحرية والكرامة والأمان.
About the author
كاتب بحريني وعضو التقدمي