بعثُ أطياف ماركس بدلاً من دفن أشباحه
كان صيفاً قائظاً في بغداد أواخر سبعينيات القرن الماضي عندما وقعت بيدي نسخةٌ من كتاب ( ماركسية القرن العشرين ) لمؤلفه الفيلسوف السياسي الفرنسي ( روجيه غارودي ) بترجمة نزيه الحكيم. لم أستطب العمل، وماوجدتُني مدفوعة للمضي في قراءته، وحدّثتُ نفسي أنّ القيظ الشديد – ربما – كان السبب وراء نفوري من الكتاب. أعدتُ قراءة بعض فصول الكتاب بعد بضعة شهور في أيام خريفية كان فيها الجو رائقاً فلم أجد فيه سوى كتابة خشبية صلدة ليست أكثر من ترديد نقد خشن للماركسية في نسختها الستالينية. أذكر مثلاً أنّ مفردة السيبرانية وردت في هذا الكتاب وكانت المرة الأولى التي تمرّ على مسامعي، وقد اختارها المترجم مقابلاً لمفردة Cybernetics التي تعني علم التحكّم والاتصال في الآلة والحيوان بحسب تعريف واضعها، الرياضياتي الأمريكي نوربرت وينر ( 1894 – 1964 )، وربما كانت معرفتي بنوربرت واينر والسايبرنتك الحصيلة الوحيدة التي خرجتُ بها من قراءة كتاب غارودي. جرّبتُ لاحقاً قراءة كتاب ( واقعية بلا ضفاف ) للمؤلف ذاته فازددتُ نفوراً على نفور من الكاتب. العمل الجيد يكشف عن نفسه من غير اعلانات فضفاضة ، ولن تكون الكتابة الانطباعية العامة المدفوعة بانحيازات مسبقة يوماً دليل جودة أو أصالة أو عمل احترافي يستحق عبء القراءة وكدّ الذهن والتفكّر الحثيث .
قرأتُ بعد مايقربُ من ثلاثة عقود كتاباً آخر عنوانه ( كارل ماركس: فكرُ العالم ) لمؤلفه جاك أتالي، المفكر السياسي والاقتصادي الذي عمل مستشاراً للرئيس فرانسوا ميتران؛ فهالني الفرق الشاسع بين هذا الكتاب وكتاب غارودي السابق. نحنُ هنا إزاء فكر حيوي يتناولُ تفاصيل دقيقة تناولت الماركسية كنسق فلسفي بدلاً من أمثولات آيديولوجية . يشبه أتالي مواطنه غارودي من نواحٍ عدة؛ فهو فرنسي إشتراكي أيضاً ترحّل في تخوم معرفية بالإضافة إلى سبر أغوار تقنية واقتصادية؛ لكنما الإختلاف يكمنُ في طبيعة العدّة المفاهيمية والخلفية الثقافية والدُرْبة المهنية التي يكتب منها المرء. يعلّقُ أتالي في تقديم كتابه أنّ ماركس ظُلِم كثيراً من قبل آيديولوجيين متحزّبين تساوت لديهم الأفكار الماركسية مع التطبيقات الشيوعية في بلدان الكتلة الاشتراكية، وهو يعترفُ أنه كتب عن الماركسية عقب تهاوي الاتحاد السوفييتي الذي إفترض فيه الكثيرون أنه الخزان الأعظم لنفائس الماركسية ومواريثها .
إنها مفارقة كبرى مثيرة تبعث على الدهشة أن نرى هذا الانتشار الكبير لفكر الماركسية على صعيد الفلسفة والدراسات في العالم الغربي حيث قلاع الرأسمالية وحصونها العتيدة في جامعات النخبة الأمريكية وأوساط كبار المثقفين وصانعي السياسات. يحارُ المرء حقاً في فهم بواعث هذا الاهتمام الغربي – الأمريكي على وجه التخصيص – المتعاظم بماركس والماركسية: سيلٌ دافق من الكتب التي تتناول ماركس، ورؤية جديدة للماركسية في شكل تطبيقات مستجدة، وكذلك تعاظم النزوعات اليسارية في قلب السياسة الأمريكية حتى بتنا نشهدُ نمطاً من الراديكالية اليسارية التي كانت ضرباً من الأحلام قبل عقد أو عقدين من السنوات. أسباب كثيرة تقف وراء بعث الماركسية وتنشيط روحها التي ذوت بعض الشيء عقب سقوط تجربة الاتحاد السوفييتي ومناداة بوش الأب بالنظام العالمي الامريكي الجديد – ولم يكن بوش في حقيقته سوى وريث أوحد لجملةٍ من السياسات النيوليبرالية الاقتصادية المتغولة -، ومن بعض تلك الأسباب: تحوّلُ الماركسية من آيديولوجيا صلبة إلى أنساق ثقافية قابلة للتطوير في نطاقات مجتمعية جديدة غير مطروقة سابقاً، وكذلك الأزمة المالية الطاحنة عام 2008 والتي أبانت تهافت البُنى التحتية للفكر الرأسمالي في صيغته النيوليبرالية التي كافأت المتسببين بهذه الأزمة وعاقبت المنكشفين مالياً من ضعاف الناس، ثمّ أنّ غياب الصراع الآيديولوجي المدعوم بترسانات من الاسلحة المدمّرة بين المعسكرين الشرقي والغربي أخلى فسحة من الفكر أمام البشر ليفكّروا في حالهم بعيداً عن الرطانات السياسية ؛ فاكتشفوا أنّ كثيراً من المظاهر الصراعية ماكانت إلا أخدوعات، وانّ القيمة الفعلية تتمثلُ في تطبيقات مرئية على الأرض وليس في معسول الوعود المبشرة بيوتوبيا مؤجلة. إنّ كثيراً من معالم دولة الرعاية الإجتماعية السائدة في الغرب تتناغم مع الطروحات الماركسية، مثلما أنّ بعض التجارب الاشتراكية في العالم لم تكن تتقاطع مع بعض الرؤى الرأسمالية. لن ننسى بالطبع دور العولمة في ايجابياتها وسلبياتها، وكذلك التطوّر العلمي والتقني الهائل ومانشأ عنه من معضلات لم يعدْ ممكناً مواجهتها على أساس أنّ كلّ دولة قومية تتكفل بمواجهتها بطريقة فردية، كما لايمكنُ أن ننسى تحوّل طبيعة الاقتصاد من اقتصاد قائم على المواد الاولية إلى اقتصاد المعرفة الذي يعتمدُ على صناعة التطبيقات الرقمية، وهذه انعطافة مفصلية ساهمت في كسر بعض المفترضات الأساسية في النظرية الماركسية التي مثّلت محاور صراعية مع الرأسمالية لايمكن التفلّت منها أو تجاوزها من قبلُ ، وهاهي قد صارت طيّ النسيان في عصرنا هذا. يمكنُ القولُ أنّ تحوّل طبيعة الدولة من دولة قومية مفرطة المركزية ( على نمط نموذج الدول القومية التي تأسست في القرن التاسع عشر ) إلى نمط الدولة الوظيفية التي تقدّمُ الأمن والخدمات لمواطنيها ساهم في تخفيف حدّة الصراع الفكري والعملي بين الماركسية والرأسمالية وفتح آفاقاً للتخادم بينهما .
ليست الماركسية بجديدة على الفكر الغربي – وبخاصة في نطاق الحراك الاجتماعي – حتى وإن تسمّت بمسمّى الاشتراكية. الاشتراكية تعني في غالب الأحوال مكافئاً مقبولاً للماركسية؛ في حين لايصحّ هذا الأمر مع الشيوعية. كثيرٌ من أعاظم مفكري الغرب وفلاسفته كانوا متبنين للفكر الاشتراكي المعقلن، ولعلّ أغلبنا يذكر أنّ مؤسسي الجمعية الفابية Fabian Society في بريطانيا ( سيدني ويب وزوجته بياتريس ويب ) كانا يدعوان إلى هذا النمط من الاشتراكية، وأنّ فلاسفة كباراً ( من أمثال برتراند راسل وبرنارد شو ) إنضمّوا لهذه الجمعية. لاينبغي أن ننسى المنظّرين الماركسيين في حقلي الأدب وعلم الاجتماع: إريك هوبزباوم، رايموند ويليامز، تيري إيغلتون وسواهم من المشهود لهم بمساهمات نوعية عالية القيمة. ماحصل في العقدين الماضيين هو انزياح الرياح الماركسية من حقول الأدب وعلم الاجتماع والسياسة إلى فضاء الاقتصاد وصناعة السياسة المالية والفكر الانساني في قلب القلاع الرأسمالية – وبخاصة جامعات النخبة الأمريكية -، وهذا هو ماغيّر قوانين المشهد العالمي وكسر كلّ التوقعات. راحت تماثيل ماركس تنتشر في الجامعات الأمريكية، واندفعت كبريات الجامعات (مثل جامعة ييل) لطباعة الكتب التي تتناول الفكر الماركسي. مَنْ كان منّا يتوقّعُ قبل عقدين أن تنشر جامعة ييل عام 2018 كتاب (لماذا كان ماركس على حق ؟) لتيري إيغلتون؟
تساءل كثيرٌ من أعضاء الانتلجنسيا المؤثرين في صناعة السياسات الثقافية الأمريكية: لماذا ينبغي أن نمنح الكثير من الاهتمام للنقّاد الاجتماعيين من طراز ماركس؟ وكان جوابهم: يواجه الأمريكيون، وبخاصة في وقتنا الحاضر عقب الأزمة المالية الطاحنة عام 2008، معضلات خطيرة تثبت لهم يوماً بعد آخر أنّ نظامهم الرأسمالي يعاني اختلالات بنيوية خطيرة لأنه يخدم مصالح 1% فحسب من الأمريكيين ويتجاهل مصالح البقية الباقية منهم. رأى ماركس (وهنا تكمن مأثرته الكبرى) أنّ الرأسمالية ليست نهاية التأريخ الانساني بقدر ماهي المرحلة المتقدمة في طورٍ ستقفز منه الانسانية نحو نظام مجتمعي واقتصادي أفضل. هذا هو جوهرُ بعض الكتب الحديثة التي كتبها مؤلفون أمريكيون تناولوا فيها الماركسية من جوانب عدّة، وسأشير إلى واحد فقط من هذه الكتب ( وهو غير مترجم إلى العربية ):
– Understanding Marxism , 2019
لمؤلفه ريتشارد دي. وولف Richard D. Wolff الذي يعملُ أستاذاً للاقتصاد في جامعة ماساتشوستس.
الغريبُ في الأمر أنّ الماركسية بحُلّتها الجديدة صارت تنتعشُ في قلب القلاع الرأسمالية، وفي الوقت ذاته راحت روسيا تحيي ماضيها القيصري المدعوم بروح المسيحية الارثوذكسية والاوليغارشيا المالية.
سيكون من قبيل الايغال في الرومانسية الفكرية أن نتصوّر إمكانية تحوّل كلّ الأمريكيين إلى ماركسيين خلصاء، وأنّ الأرض صارت ممهّدة أمام الماركسية من غير عقبات ، وأنّ الأحوال صارت “لبناً وعسلاً ” أمام شيوع الماركسية، وأن ماركس قد بُعِث من جديد في أمريكا !! كلا، الأمور ليست كذلك لأنّ هذا ليس من طبائع التجربة الانسانية التي يمثل العنصر الصراعي – على المستويين المادي والفكري – خصيصة أساسية لها. يكفي في هذا الشأن أن أشير إلى كتاب حديث صدر في تموز 2021، عنوانه ماركسية أمريكية American Marxism لمؤلفه مارك آر. ليفن Mark R. Levin، وهو صانع برامج مؤثرة في أمريكا، وقد سبق لكتبه السابقة أن حازت مراتب أعلى المبيعات في أمريكا، وهو مافعله كتابه هذا الذي ظلّ على قائمة النيويورك تايمز للكتب الاعلى مبيعاً لحدّ يومنا هذا .
لايخفي ليفن ميوله المحافظة، وقد بذل جهوداً عظيمة في تجميع المحافظين عبر إعلان ( شبيه بالإعلان الشيوعي ) منحه عنواناً لافتاً: الحرية والطغيان Liberty and Tyranny، أراد له واضعه أن يكون قاعدة عمل فلسفية وتأريخية وعملية لمناهضة الهجمة الليبرالية ( هكذا أسماها ليفن ) على القيم الدستورية الامريكية .
بذل ليفن في كتابه آنف الذكر ( ماركسية أمريكية ) جهوداً مضنية ليؤكّد أنّ عناصر الآيديولوجيا الماركسية صارت متغلغلة في المجتمع الأمريكي والثقافة الأمريكية: في المدارس، والصحافة، والمؤسسات، والسينما الهوليودية، واخيراً في أوساط الحزب الديمقراطي وصولاً إلى أقرب مستشاري الرئيس الأمريكي بايدن . يضيف ليفن انّ هذا التغلغل الماركسي يتخذ أشكالاً مخاتلة تحت مسمّيات عدّة: التقدمية، الاشتراكية الديمقراطية ،،، إلخ ، ثمّ يعرضُ ليفن، مستخدماً لغة تقنية دقيقة، بعضاً من التكتيكات النفسية التي يلجأ إليها أنصار هذه الحركات لغسل عقول الطلاب في المدارس والجامعات تحت شعارات جديدة : الفمنست، النظرية الجندرية الجديدة، النظرية البيئية والصفقة الخضراء الجديدة، المغالاة في حقوق المثليين والسود ..
لنقرأ بعض مايكتبه ليفن في هذا الشأن :
“الثورة المضادة للثورة الامريكية هي في اوج قوتها، ولم يعُدْ بالمستطاع نبذها أو تجاهلها لأنها صارت تجتاحُ مجتمعنا وثقافتنا، وحياتنا اليومية وكلّ تفاصيل سياستنا ومدارسنا وإعلامنا ووسائل ترفيهنا. يجبً على الأمريكيين الأصلاء أن يقودوا ركب الدفاع عن حريتهم …… “
أتساءل هنا: لماذا هذا الخلط القسري بين الماركسية والتوجهات الجديدة في الثقافة الأمريكية (مثل الراديكالية اليسارية التي يبديها ساسة الحزب الديمقراطي)؟ هل يريد ليفن القول أنّ أوباما وظلّه الشاحب بايدن هما ممثلان أمريكيان للماركسية الجديدة؟ واضحٌ انّ كتاب ليفن يأتي في سياق معركة حزبية حامية بين اليمين المتشدد واليساريين الراديكاليين في أمريكا، وماحشرُ الماركسية في هذا اللعبة إلا بعضُ أفاعيل الأحزاب في ألعاب التنافس وآلياته .
الغربُ يحيي أطياف ماركس ويبعثُ الروح في مواريثه بعد إعادة اكتشافه، وقد يشنُ حروباً ثقافية عليه؛ أما روسيا – وريثة الاتحاد السوفييتي – فتكتفي بأن تدفن أشباحه الحقيقية أو المتخيلة وتهيل التراب على ذكراه . تلك هي المفارقة التي ماكانت تطوفُ بخيالنا أبداً .