المبدعون الجدد ومتلازمة الثقة المفرطة

0
29

كنت أعرف سابقا “متلازمة المحتال” والتي تصيب بعض الكُتّاب حتى أن نجاحاتهم تبدو لهم كأنها مجرّد خدعة، وأن القارئ قد يكشف احتيالهم لا محالة. كما يعتقد بعضهم أنهم ليسوا كُتّابا، ولا يليق بهم هذا الاسم. كما تلازمهم الشكوك حول نوعية نصوصهم، بحثا عن “الكمال” الذي لا يبلغونه أبدا.

نعرف هؤلاء حين يشعرون بالخجل فينكسون رؤوسهم كلما أبدى أحدهم إعجابه بما يكتبون. بالكاد ينطقون كلمة شكرا، مع بعض الكلمات التي تنفي تقريبا عبارات الإعجاب التي يتلقونها.

في البداية دعوني أشرح وفق فهمي البسيط للأمر أن كلمة متلازمة ترد في تحليل أعراض لأمراض نفسية، فهي بالتالي مصطلح طبي، لكن كونها ترافق نسبة كبيرة ممن يمارسون مهنة الكتابة فقد تبادر إلى ذهني نوع آخر من “الأدباء الجدد” الذين يعانون من متلازمة معاكسة تماما لمتلازمة المحتال، وهي متلازمة الثقة المفرطة!

الطب يقول: “أخبرني في أي وسط عشت، لأفسّر لك عقدك وأمراضك من أين أتت، وكيفية التخلص منها”

يصطدم الكُتّاب بأفراد محبطين في عائلاتهم، رغم امتلاكهم لمواهب في الكتابة وقول الشعر، وهذا أمر قد يولِّد لديهم عدم الثقة في النفس وتنامي هذه المتلازمة، كما يصطدم البعض بالنصوص الجيدة التي تثير لديهم دهشة تتحوّل مع تقدمهم في العمر إلى أسئلة عويصة: “هل يمكن أن أكتب مثل فلان وأصبح كاتبا عظيما؟” وهذا أخطر من الصدمة الأولى.

“لا أحد يملك قصصك وأحاسيسك، إنك فريد من نوعك” هذه المقولة تعود للكاتبة الأمريكية آشا دورنفست، وهي بشكل ما تمثل علاجا لأولئك الذين يشعرون بقلّة تقدير للذات، وبمتلازمة الورقة البيضاء،  وأيضا متلازمة المحتال.

يقف بعض الكتّاب رغم شهرتهم أمام لقب “كاتب”  وقفة إجلال وتقديس، وهذا خطأ آخر، يجعلهم يبتعدون عن مساحات الضوء بدل استغلالها للظهور، كما يفعل الكتّاب ذوي الثقة المفرطة بأنفسهم بحيث يتشبثون ببقعة الضوء هذه ولا يغادرونها، بل يتمادون في سلوكهم المريض هذا إلى درجة محاربة غيرهم من الاقتراب من حدودها. ألا يصادفنا بعض هؤلاء؟ نعم نصادفهم وفي الغالب نطلق عليهم ألقابا ساخرة مثل “العظيم فلان” أو أي لقب آخر يختصر حجمه وهو منتفخ مثل بالون !

هل يحتاج الكاتب لبعض المتاع الزائد ليسعد بلقبه البسيط “كاتب”؟ هل يحتاج لرقم مبيعات خرافي؟ أو لظهور متواصل على بلاتوهات التلفزيونات؟ هل يحتاج لمتابعين بعشرات الآلاف؟ بالطبع لا، فالكاتب يأخذ هذا لقبه من شغفه بالكتابة، وبتلك الموهبة التي لا خلاص منها حين تهجم عليه القصص من كل جانب وتحرّضه على كتابتها.

يختلف الكاتب الذي تنتابه الشكوك تجاه ما يكتب، عن الكاتب الذي ترعاه مواقع التواصل الاجتماعي بمزيد من النفخمن طرف متابعيه، حتى يصبح مثل البراميل الفارغة التي تحدث الكثير من الضجيج.

ما زلت أتذكر إحدى المتابعات حين أرسلت لي جزءا من روايتها لقراءته مع رسالة مدبجة بعبارات “النفخ” والمجاملات التي لا معنى لها، ورغم ضيق وقتي قرأته وكتبت لها عدة ملاحظات منها أنه لا بأس من تمرير مخطوطها لمدقق لغوي قبل إرساله لناشر، كما أشرت إلى شطب بعض الثرثرة!  جوابها كان صادما لي بلهجة قاسية وساخرة، مشيرة إلى أنّها نالت جائزة بنصها، وأنّها أخطأت حين وثقت بي وأرسلت لي جزءا منه. وفوق ذلك أرسلت لي صورة عن عدد متابعيها على إنستغرام والذي يفوق عدد متابعي باولو كويلو وإيزابيل ألليندي وغيوم ميسو مجتمعين!

ردة فعل هذه “الكاتبة المبتدئة” أثار لديّ أكثر من سؤال:

هل كل متابع يعتبر قارئا جيدا؟ هل كل جائزة تمنح لرواية تعني أن العمل جيد؟ وهل يمكن اعتبار كل كتاب منشور يصنع كاتبا؟ ثم يأتي السؤال الأخطر: هل يمكن لكاتب من هذا النوع أن يذهب بعيدا بمشروعه هذا إذا كان لديه حقا مشروع كتابة جاد؟

الحقيقة الصادمة أن عالم الأدب اليوم يشبه كثيرا عالمي الأغنية والسينما، فهما يقدّمان نتاجات كثيرة أمّا الجيد منها فنادر. وهذا يفسّر نقمة نقاد كثر على ما يقدّم لتلبية أذواق العامّة، وكأنّ مهنة النّاقد انتهت، وأصبحت بدائله الكثيرة منتشرة على مواقع التواصل الإجتماعي والتي قد تقيّم أي عمل ب “لايك”.

في حوار مع أستاذ الأدب المقارن السابق في جامعة أوكسفورد غابريال يوسيبوفيتشي يقول أن معظم الروائيين الإنجليز المعاصرين مجرّد متطرفين صغارَ، مضيفا أن الرواية الإنجليزية الحديثة مخيبة للآمال مقارنة مع ما كتبه الأسلاف الطليعيون الحداثيون.  ويصفها أيضا بمحدودية الأفق. متسائلا من أين لهؤلاء الكتّاب الجدد بهذا الكمّ من الجرأة لمواجهة العالم بشهرتهم الجوفاء المزيفة؟ إنهم يشبهون في نظره تلاميذ المدرسة بعد كل امتحان حين يتفاخر كل تلميذ بعلاماته، ويقصد بذلك الأرقام التي تفرضها مواقع التواصل الإجتماعي وترتب هؤلاء “الكتبة” على سلم يُشعر البعض بالنجاح والبعض الآخر بالفشل.

هل كل المبدعين مرضى نفسيين أو مجانين كما قال بايرون؟ أم أن مرض العظمة الذي يشهده هذا العصر الإلكتروني ليس أكثر من فيروس قاتل للإبداع؟

في الغالب هو قاتل للإبداع، لأن المصابين بمتلازمة الثقة المفرطة يستحوذون على الإهتمام، ثم على المكافآت، ثم على الجوائز، والمناصب، وللأسف حين يمضي زمنهم يتركون الخواء. في الوقت نفسه ينحسر المشككون في قدراتهم بعيدا عن المشهد الثقافي  بسبب متلازمة المحتال، وقد تبرز أعمالهم في أواخر أعمارهم، أو بعد وفاتهم بسنوات. يحزننا هذا الأمر، ولكنّنا لا نستطيع معالجته كونه مرتبط مباشرة بشخصية الكاتب أو المبدع عموما، خاصة في مجتمعاتنا التي لا تولي اهتماما لمبدعيها.

في هذا الشأن تحضرني قصة طريفة للص أمريكي يدعى ماك آرثر ويللر، والذي قرأ معلومة تقول إذا دهن شخص وجهه بعصير الليمون فلن تسطيع الكاميرات تصويره، فاعتمد هذه المعلومة وقام بسرقة مصرفين العام  1995 مكشوف الوجه بثقة مفرطة على أن ملامح وجهه أصبحت غير مرئية. وحين أُلقيَ عليه القبض في ظرف ساعات اندهش ولم يصدّق أن خطته المتقنة لم تنجح.  

العالمان النفسيان الأمريكيان ديفيد دانينغ وجوستين كروجر من جامعة كورنيل قاما بدراسة حالة ماك كنموذج عن الثقة المفرطة، وخلصا إلى أن الأشخاص ذوي المؤهلات الضعيفة في مجال ما يميلون إلى المبالغة في تقدير مهاراتهم، وهم ينجحون أكثر كلما زادت نسبة الجهل في مجتمع ما.

لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الاستنتاج، إن أبعاده الخطيرة تتوضح حين يبرز هؤلاء في ميادين حساسة مثل ميدان الفيزياء والرياضيات، والطب والجراحة، وصناعة الأدوية، و الأسلحة، واتخاذ قرارات شن الحروب، وبث السموم الفكرية عبر كتب ذات محتوىً مدمِّرٍ للعقل…إلخ

يختصر لنا دانينغ وكروجر هؤلاء بأنّهم: “أفراد غير أكفّاء يفتقرون إلى القدرة على معرفة مدى جودة أدائهم، وهم في الوقت نفسه لا يعرفون متى يصيبون ومتى يخطئون”.

يمكنك الآن أن تستاء ما شئت مما تقرأ وتسمع وتشاهد من أمور تثير في داخلك النحيب، بسبب هذه “العيِّنات المريضة”  فالتفاهة معدية، والرداءة أيضا، وهذا الانقلاب في القِيم يترك آثارا سامّة حيثما حلّ، ويجرُّ الكثير من الظلم والمعاناة خلفه.  وقد سبق سقراط الدراسات الحديثة إلى التنبيه لذلك قائلا: “وهم المعرفة أخطر من الجهل” لكن من أصغي لسقراط ؟ فقد دخلنا فعلا منظومة التفاهة كما أسماها الفيلسوف الكندي آلان دونو بعد استيلاء أصحاب الثقة المفرطة على الشعلة التي تنير طريق البشرية سالكين بها دروبا فرعية لا أول لها ولا آخر.