كانت فرنسواز جيلو فنّانة تشكيلية وناقدة فرنسية عاشت مع الرّسام الإسباني الشهير بابلو بيكاسو لأكثر من عقد من الزمن. وقد روت حياتها المضطربة معه في كتاب نُشِر أول مرة العام 1964، مُشارِكة تفاصيل حياتهما الحميمة مع ملايين القرّاء، فضلا عن عملهما الفني معا، وعلاقاتهما الاجتماعية ورحلاتهما.
الكتاب يختصر تجربة في العيش جنبا لجنب مع أحد أكبر فنّاني القرن العشرين تأثيرا.
سنفهم القليل عن هذه العلاقة بمجرّد معرفتنا بتاريخ ميلاد فرنسواز (26 نوفمبر 1921) فيما بابلو بيكاسو مواليد (25 أكتوبر 1881) فالفارق العمريُّ بينهما أربعون سنة، ولكن العلاقة أثمرت ولدا وبنتا. وقد نعطيها وصفا خاصا وهي أنها علاقة مبدعين كل منهما يبحث عن مُلهِم لا عن شريك حياة.
زوجة بيكاسو الأولى الأوكرانية أولغا خوخلوفا مواليد (17 جوان 1891) وزوجته الثانية جاكلين روك مواليد (24 فبراير 1927)، بعدها لا يمكن عدُّ نسائه، فالرّجل كان له سحرُ خاص، هذا غير مكانته الفنية المتميزة عالميا فقد كان أول فنّان في العالم يشهد دخول أعماله إلى متحف اللوفر.
في مقدّمة الكتاب تكتب المترجمة مي مظفّر أن فرنسواز جيلو التي تقدّم سيرة ذاتية هنا لم تهدف إلى المساس بسمعة هذا الفنّان فالقارئ سيشعر بمدى الحب الذي تحمله هذه المرأة لبيكاسو وإعجابها الكبير بطاقته الخلاّقة، وهو كلام أشار إليه كارلتون ليك في مقدمته في الطبعة الأولى. فإلى أي مدى هذا الكلام صحيح، خاصة أن “صدور الكتاب أثار حفيظة بيكاسو ووجد فيه هجوما سافرا عليه لما تضمنّه من تفاصيل دقيقة عن حياته وسلوكه وولعه بالنساء وهو الذي كان يعيش تحت هاجس الشك والتّكتُّم في كل أموره الحياتية على عكس سلوكه مع الآخرين والتمتُّع بفضحهم والسخرية منهم”. التقت جيلو بيكاسو العام 1943 وهو متزوّج من زوجته الأولى، وخلال فترة زواجه هذا عاش حياة موازية مع العشيقة عديمة الخبرة والتي أنجبت ولدين غير شرعيين ليس من السّهل تقبلهما في أربعينات القرن الماضي اجتماعيا. عشر سنوات بعدها كانت كافية لتنضج الرّسّامة الشابة وتدرك أن الاستقرار العاطفي الذي حلمت به لن يتحقق مع ذلك الرّجل المتعجرف، لهذا ستتخذ القرار الصحيح وتخرج من حياته، وتبدأ حياة جديدة أكثر اتزانا واستقرارا حين التقت الطبيب الأمريكي الشهير جوناس سولك منقذ البشرية من شلل الأطفال. وقد تزوجا العام 1970 إلى أن وافته المنية العام 1995.
عكس ما قد يتوقعه القارئ فإن فرانسواز خرجت مهزومة عاطفيا ولكنها اكتسبت طفلين، ولقبا فنيا مُهِمًّا بعد أن اشتهرت وهي بجوار بيكاسو. وأعتقد أن لبعض المحطّات في حياة الفنانين أثمان باهظة عليهم دفعها، وضريبة جيلو كانت أقسى من الكلمات التي صاغت بها كتابها بمساعدة كارلتون ليك. لمن يتذكّر فيلم “Surviving Picasso” (1996) بطولة أنتوني هوبكينز ونتاشا ماكلهون سيدرك أن السينما لم تراوغ المشاهد كما فعل الكتاب. فالواقع في كل العالم سواء كان متحضرا أو متخلّفا لا يقبل التهجُّم على رموزه.
وأنا أقرأ الكتاب توقفت كثيرا عند محطّات مهمة من حياة بيكاسو وعشيقته. إذ على ما يبدو نحن أمام اعترافات خطيرة صدرت عن بيكاسو في غفلته حين كان عاشقا، وهي استغلّت ذاكرتها القوية لاستعادة كل ما حدث بالتفصيل. لهذا فهذا الكتاب ليس بيوغرافيا عادية تقدّم الشخصية الرّائعة لبيكاسو التي يعرفها المعجبون به كفنان، بل شهادة فاجأته شخصيا وأشعرته أنه كان مخدوعا، وبشكل آخر يمكننا أن نقول أن “بيكاسو صنع جزءا من شخصيته بفنّه، وصنع الإعلام باقي تلك “الأنا” المبالغ في تعظيمها، أما فرنسواز جيلو فكتبت قصة حب مثيرة تتوفّر فيها كل عناصر الجذب والتعاطف والإعجاب، وأراهن أن القارئ مهما كان مستواه سيقع في حب الكتاب، ولن يفلته من يده حتى آخر صفحة.
تبدأ جيلو قصّتها المثيرة مع بيكاسو من لحظة لقائهما الأول، برفقة صديقتها جنيفييف، مكتشفة منذ البداية أن صديقتها مثلت لبيكاسو “كمال الشكل” أمّا هي فقد كانت مفتقرة لذلك، بسبب طبيعتها القلقة التي كانت بالصدفة تشبه إلى حدٍّ كبير طبيعته هو.
هل كانت تلك إحدى حيله لاستدراجها إلى فراشه؟ لا أحد يعرف، فقد وقعت تحت تأثير ذلك الكهل القصير القامة وأخذت حياتها منعرجا آخر، تلته امتحانات صعبة كان يجب عليها أن تنجح فيها لتتسلّق المجد. المؤكّد أنّه خبير في إلقاء شباكه على النساء، فما بالك حين تكون المرأة التي أمامه صبية في مقتبل العمر، وتراه كنجم ساطع في سماء الفن. لكن المؤكّد أكثر أن الحظ كان حليفه، ففي يوم ماطر وفرنسواز جيلو تقطع الشوارع بدراجتها الهوائية لبلوغ بيته، أممطرت، وتبللت بالكامل، وحين وصلت إليه، قادها إلى الحمّام وساعدها على تجفيف شعرها، لعلّها هنا أدركت مبتغاه، وعرفت أنّه يخطّط ببطء للحصول عليها، ففاجأته بما لم يتوقعه، أن تجاوبت معه وطلبت المزيد، ورغم أنّه اعتبر تصرفها مقزّزا، وتمنى أن ترفضه في البداية ليمارس لعبة التّحدي التي يحبها، إلاّ أنّها كانت واثقة، وغير مبالية وجريئة، وهذا ما أربكه.
لن ألعب هنا دور المحلّل النّفسي لكن جيلو ربّما رأت والدا آخر أمامها غير والدها الذي عاشت معه كل أنواع السيطرة والقسوة التي بلغت حدّ الضرب العنيف. في رواية مذكراتها تعود بنا إلى تلك المراحل الصعبة، من التوتُّرات العصيبة بينها وبين والدها. الذي سرق منها طفولتها، ساعيا لتكوينها على ذوقه، ناسيا أن المعرفة سلاح للمواجهة وليس أداة للخضوع. الطفلة التي قرأت عشرات الكتب رسمت خطّ حياتها وأرادت أن تكون رسّامة، وهذا ما حرّرها من والدها المتسلّط، وهذا ما أوصلها لبيكاسو.
في مقطع مثير للاهتمام تقول: “لم أستطع أن أتواصل مع والدي، وغالبا ما كانت علاقتي بالفتى الوحيد الذي في سني والذي اعتقدت بأنني أحببته، صعبة ومعقّدة وسلبية تقريبا، والآن، أصبحت فجأة أتفاهم بيسر مع رجل يفوق عمره ثلاثة أضعاف عمري، وكان من الممكن التحاور معه، بأي موضوع، فكأنّني أمام معجزة”. أمّا بيكاسو فقد اعترف لها أنّه منذ رآها من أول لحظة، عرف أنه بإمكانه التواصل معها بقوله: “لم أجد قط أي شخص يشبهني…كان لديّ مثل هذا الإحساس بأننا نتحدّث بلغة واحدة”.
هكذا تأسست تلك العلاقة الشاعرية السرية بين جيلو وبيكاسو، هل كانت محظوظة هي الأخرى؟ قد يرى كثيرون أن الحظ الذي ابتسم لها كان بحجم الكون كلّه، فما وفّره بيكاسو لها لم يوفّره لأحد، خاصة في ظروفها تلك.
ما تبقى من التفاصيل التي ستأتي فيما بعد ستكون حكاية من أروع حكايات التاريخ الثقافي والفني وقصص الحب المعقدّة، وقد أتقنت الشاعرة والأكاديمية والمترجمة مي مظفّر بلغتها الجميلة الجذّابة نقل النص لنا عن ترجمته الإنجليزية إلى العربية، وهذا ما جعل سعادتي مضاعفة وأنا أقرأه. كونها كانت هي وزوجها الفنان التشكيلي رافع الناصري رحمه الله من الأساتذة الذين غرفت منهم الكثير من المعارف، ومن الأصدقاء الأعز إلى قلبي.
صدرت الطبعة الأولى لهذه الترجمة العام 1993، عن دار المأمون للترجمة والنشر، ولأنّ الطبعة صدرت بشكل لم يرض الدكتورة مي مظفّر، فقد عاهدت نفسها أن تعيد نشره بالصيغة التي ترضيها، فجاءت هذه الطبعة وهي الثالثة منقحة، وخالية من الأخطاء إلا ما ندر، صادرة عن دار الرّافدين (بغداد)، في خمسمئة وست وثلاثين صفحة بالإضافة إلى ملحق للصور بالأبيض والأسود يرصد محطّات مهمة من حياة بيكاسو كما رأتها جيلو.
ولأن الكتاب ثري جدا بتفاصيل مدهشة فإنه من غير الممكن اختصاره، وربما من المجحف أن يرشق بالحجارة النّاقدة قبل قراءته، لأنّه تحفة من تحف الحياة، وجزء من التاريخ، حتى وإن لعبت مخيلة جيلو ببعض الوقائع حسب قدرتها على التّذكُّر، وشاركها ليك في تهذيب لغتها السردية لجعلها تحفة أدبية حقيقية، خاسر من لا يطّلع عليها.