كيف كتب ناظم حكمت سيرته الذاتية؟

0
65

“أحمد” هو الاسم الحزبي السري لناظم حكمت في مطلع شبابه. وسيصبح “أحمد” هو البطل الرئيسي لروايته: “الحياة جميلة يا صاحبي”، التي أنجزها قبل عام من وفاته. ناظم الذي ناهز الستين عاماً، سيختار أن يكتب عن “أحمد” ذي الثالثة والعشرين، ليوثق حياته روائياً. في سبتمبر ١٩٦١. في برلين سنقرأ في قصيدة له بعنوان “سيرة ذاتية” ما يلي: “خلاصة الكلام أيها الرفاق، هي حتى لو كنت اليوم سأموت غمّاً في برلين، فإنني أستطيع أن أقول بأنني عشت إنساناً، أما كم سأعيش، وماذا ينتظرني.. فلا أحد يعرف!”.

“سأموت غمّاً في برلين” ؟!، ولكن لماذا؟ 

لا يزال كتّاب سيرته يتجادلون حتى اليوم في أسباب نوبات الاكتئاب المتكررة التي داهمته في سنواته الأخيرة، وعلى الأرجح أننا لن نعلم الحقيقة أبداً. ما سنعلمه هو أنه منذ هروبه من تركيا إلى الاتحاد السوفيتي في عام 1950 حتى وفاته في 1963، عاش ناظم حكمت بوصفه أيقونة لكل مناضلي الحرية في العالم، علماً أنه تمتع بوضع مادي مريح حاله كحال مشاهير الأدب والفن في زمنه. كما عادت علاقته مع الحزب الشيوعي التركي، وأصبح عضواً فعالاً في قيادة الحزب الذي تزعمه “إسماعيل بيلين” الأمين العام للحزب.

كانت مدينة لايبزغ في جمهورية ألمانيا الديمقراطية تحتضن غالبية قيادات الحزب آنذاك، حيث عمل بعضهم في الإذاعة الناطقة بالتركية في تلك المدينة.  كتب خلال الثلاثة عشر عاما التي قضاها في منفاه “الاشتراكي” قصائد عديدة من موسكو، براغ، برلين، صوفيا، وغيرها، والكثير منها يتضمن تلميحات الي فترات حياته السابقة. داهمته شتى ضروب الحنين في سنين غربته: حنين الي الوطن، حنين إلى سنين النضال السابقة، حنين إلى تجارب الغرام في شبابه. عاش حالة اغتراب سيعرفها الكثيرون باسم “غربة الزمن”: فحاضرهم غريب، وماضيهم مألوف، ومستقبلهم مجهول. اشتبك ناظم حكمت مع “شياطين” الذاكرة، وحاول ترويضها واستئناسها، وكان من نتائج ذلك إبداعه لرواية “الحياة جميلة يا صاحبي”. تشير مصادر سيرته إلى أنه كان يفكر في موضوع الرواية لسنين، ولكنه احتاج فقط لشهر واحد ليكتبها في فندق في وسط مدينة “فيينا” في عام١٩٦٢.

شخصيات الرواية محدودة، أبرزهم أنوشكا عشيقة أحمد أيام دراسته في موسكو، إسماعيل وزوجته ناريمان من رفاق أحمد، وسي. ياو. أو الطالب الصيني الذي تشارك معه غرفته في الجامعة. المثير أن ناظم حكمت ذاته يتقمص دور أكثر من شخصية في الرواية، فتارة نراه في ذكريات أحمد، وتارة أخرى نراه في إسماعيل. كما لاحظ أحد النقاد ذات مرة، فإن ناظم تعامل مع شخصياته كما يتعامل مخرج سينمائي مع فيلم رخيص التكلفة، حيث يقوم الممثلون بأكثر من دور في العمل.

يتحدث ناظم عن شخوص وأماكن تسكن ذاكرته، بوصفهم “ضيوفا”. استخدامه لهذا التعبير يعكس احترامه لمن يتذكرهم، والطبيعة العابرة لوجودهم في حياته.  مشاعره تجاه شخوص الذاكرة يصفها بقوله: “هناك من أحبهم مثل حياتي. وهناك من أكرههم. لكني لا أشعر بالعداء تجاه أي شخص باستثناء من قتلوا شهداء الحزب وكل الطبقات المستغلة للكادحين ليس في تركيا فحسب بل في كل العالم”. لا توجد أحقاد شخصية في قلب ناظم حكمت، عدائه مكرس لمن يستغل ويظلم، ضد الفاشية والإمبريالية. مثير هذا التمييز بين مفهومي الكراهية والعداء، فالأولى تتعلق بميوله الشخصية، والثانية بمبادئه السياسية. ناظم لا يشخصن عدائه السياسي، ولا يعادي من لا يحبه. “هناك بعض الأشخاص يعادوني، في حين أنني لست عدواً لهم. إنه لأمر غريب أن تعرف أنّ ثمة إنسان يكن لك العداء ولا تشعر بالعداء نحوه.”

يقول أيضا: “لديّ ضيوف: جميع المدن التي عرفتها، وتلك التي زرتها فقط في الكتب والصور. كل البلدات الصغيرة والطرق الجبلية والغابات والشوارع والليالي والأيام. جدول المياه المليْ بالأسماك في قرية قيرازلي، وخليج قالاميش بإسطنبول، وشارع توفيرسكوي بموسكو، ومقهى أينالي في بولو.” 

في الرواية نرى “أحمد” يفعل كل ما سبق لناظم أن فعله، رحلته عبر الأناضول إبان حرب التحرير، معيشته في “جورجيا” في مطلع العشرينات، ودراسته في موسكو، ومطاردات البوليس السري له في تركيا. كل تلك المغامرات ستذكرنا بما حصل في حقيقة الأمر لناظم نفسه. إلا أنه نتيجة لطبيعة العمل ذاته، كونه “رواية”، فإن ناظم حكمت كان حراً في اختيار و”تعديل” تفاصيل تلك المغامرات وفق ما يراه هو كمؤلف للرواية. وحيث أن الحدود بين الخيال الروائي وسرد حقائق السيرة الذاتية الفعلية ستبدو مبهمة في تلك الرواية الجميلة، فلن يستطيع أي أحد أن يلوم ناظم فيما إذا كان دقيقاً في سرده لقصة حياته أو أنه مزج أحداثاً من وحي خياله.

الحبكة الأساسية للرواية تتلخص في أن “أحمد” يلجأ إلى كوخ حجري في ضواحي إزمير في عام 1925، في أعقاب هجمة بوليسية واسعة شنتها السلطات آنذاك ضد أعضاء الحزب وكوادره. سيتم تكليفه بمهمة تجهيز مطبعة سرية لصحيفة الحزب بداخل الكوخ، إلا أنه وخلال خروجه ذات يوم يتعرض لعضة كلب هزيل. ينصحه بعض الرعاة بتضميد الجرح بأوراق التبغ وألا يهتم كثيرا بالموضوع. بعد أربعة أيام سيقرأ في الجريدة خبراً عن الكلاب المسعورة، وإن عدة أفراد في إزمير تعرضوا لإصابات نقلوا على إثرها إلى إسطنبول، حيث يتوفر المستشفى الوحيد المختص بعلاج الحالات المسعورة.  يصاب أحمد بالذعر، ويشكّ في أنه ربما يكون مصاباً، ويخبر رفاقه بالحقيقة في اجتماع الخلية الحزبية، يدور الجدل حول ما يتعين فعله بخصوص مصير أحمد. هل سيذهب إلى إسطنبول في ظل مخاطر اعتقاله من البوليس، مع احتمال الوشاية به من قبل الطبيب الذي سيعالجه في المستشفى؟ هذا في حالة أنهم متأكدون من كون الكلب مسعوراً، ولكن لا شيء يبعث على اليقين التام لاتخاذ قرار نهائي: فهم غير متأكدين أولاً من أنه مسعور، وثانياً في حالة تأكدهم من ذلك، فإنهم غير متأكدين من أنه سينجو من البوليس أو الوشاية في حال ذهابه إلى إسطنبول للعلاج. في الختام سيلقون بكامل مسئولية القرار على عاتق أحمد: تصرّف أنت كما تراه مناسباً.

يبدو أن ناظم حكمت في هذه الحبكة – اللغز، والمتعلقة بالقرار المناسب الذي يتعين اتخاذه في حالة أحمد، قد لخّص بكثافة بعض معضلات اتخاذ القرارات في ظروف العمل السري آنذاك: حساب للمخاطر قائم كله على تخمينات، بالإضافة إلى الاشتباك والتعارض المحتمل بين مصلحة حياة الفرد (علاج أحمد من السعار المحتمل)، ومصلحة الحزب (عدم وقوعه في أسر البوليس).

تتوالى فصول الرواية الستة والعشرون لتعكس مشاهد مختلفة من الذاكرة تداهم أحمد وهو ينتظر في الكوخ، إذ قرأ في أحد الكتب أن فترة حضانة الإصابة بالسعار تبلغ أربعين يوماً وبعدها يتوفى المريض. يعيش هوس انتظار الموت، ويبدأ بخطّ خطوط بالطباشير على باب الكوخ لحساب انقضاء الأيام. وهكذا سيدخل القارئ في حالة مستمرة من الترقب والانتظار طيلة صفحات الرواية، بل أن فصول الرواية معنونة بأرقام الخطوط التي يخطها أحمد على الباب.

 ولكن سيتضح أن فصول الرواية عبارة عن ذكريات مختلفة ذات مكانة خاصة في قلب ناظم حكمت: العمل التطوعي في أيام الجامعة، احتفالات الأول من مايو، سيتذكر أحمد قبلته الأولى، وكيف أن أنوشكا لم تعرف كيف تقبل. لا يتم سرد الذكريات وفق مسار زمني منتظم بل مختلط، فذكريات موسكو (في العشرينات) تمتزج بذكريات لقاءات الأهل في أوقات الزيارة في سجن بورصة (في الثلاثينات). أحمد يتذكر تلك الأيام: الحزين منها والمبهج، بنفس القدر من الشجن والحنين.

هناك بيتان من الشعر، يطاردان مخيلة أحمد طيلة الرواية: الأول حول معضلة الالتزام السياسي ومصائره، والثاني حول حالة الفراق المزمنة التي سيعانيها طيلة حياته. في أحد الفصول سنقرأ مشهد أحمد وهو يقرأ في ديوان شعري وجده في الكوخ. يسأل رفيقه إسماعيل: “ما الذي تتذكره من القصائد في هذا الديوان؟”، فيجيبه: سطر واحد: السفينة ذات المائة صارية، ما هو الميناء الذي ستبحر إليه؟، لماذا تتذكر هذا السطر؟ “بسبب الصواري.”

في مشهد آخر نرى أحمد ممسكاً بيد أنوشكا وهما يتجولان في الغابة. يغني أحمد مقطعاً شعرياً: “أسمع نواح الناي، وهو يشكو من الفراق”. فتسأله أنوشكا “ما الذي تتمتم به يا أحمد؟”. “هناك شاعر عظيم، صوفي، لكنه رائع حقا اسمه مولانا الرومي – أنا أردد أحد أبياته الشعرية.”  وترجم أحمد معني تلك الأبيات لأنوشكا: “الناي مصنوع من القصب؛ إنه مكسور من القصب. لذلك عندما تعزفين عليه، فإنه ينعى انفصاله. الإنسان جزء من الكون، وحين ينفصل عنه فإنه سينعى هذا – أعني، الشاعر يفعل ذلك.”

تنتهي الرواية بخروج أحمد من الكوخ وركوبه القطار متجها إلى إسطنبول، بعد أن تخلص من مخاوفه بخصوص إصابته بالسعار. في الفصل الأخير يطلب أحد رفاق أحمد منه أن يقول شعراً، فيجيبه بهذه الأبيات: “أنا شيوعي،…عاشق أنا من قمة الرأس إلى أخمص القدمين. العشق رؤية وتفكير وفهم. العشق أن تحبّ الطفل الوليد وانبلاج الفجر، وتصبو إلى النجوم، وتسقى الفولاذ بتعبك”.  تعقيباً على هذه القصيدة تقول ناريمان الجملة التي تحولت إلى عنوان للرواية: “الحياة شيء جميل يا رفيقي”.

في النص الأصلي لمخطوطة الرواية يستخدم ناظم حكمت عبارة “أنا شيوعي” في القصيدة التي ترد في الختام. لاحقاً تمّ استبدالها بتعبير “كادح” في معظم الترجمات الأجنبية، الأمر الذي دفع بصندوق ناظم حكمت الثقافي في أنقرة في نوفمبر ٢٠١٧، إلى الاحتجاج وإصدار بيان يوضح فيه موقفه الرافض للرقابة على النص الأصلي، والتي تمت في ظل قانون تجريم الشيوعية في تركيا، وبما أن القانون قد تم إلغائه، فإن شطب كلمة الشيوعية في ٢٥ موضعا في الرواية، بما فيها نص القصيدة النهائية أصبح غير مبرر. وأوضح البيان أن هوية ناظم حكمت الشيوعية، هي هوية إنسانية “من قمة الرأس إلى أخمص القدمين”. نتفق مع ذلك تماماَ، فعلينا فهم ناظم حكمت كما فهم هو هويته، بعيداً عن التمويه والتحريف.  في قصيدته في نهاية الرواية سيلخص ناظم حكمت كل ما أراد قوله عن شيوعيته، وإنسانيته، ومغزى حياته. فمن سيعترض على ربط” العشق بالرؤية، والتفكير، والفهم “؟   ومن سيجرأ ألا يحبّ “الطفل الوليد، وانبلاج الفجر”؟