ليس هو عنوان لكتاب ألّفته أو مقال كتبته، هو عنوان لكتاب قرأته وغيّرت عنوانه، فالكتاب هو (رأيتُ رام الله) لمريد البرغوثي، الشاعر والأديب الفلسطيني المرموق. لم أقرأ سيرة أجمل من هذه السيرة الذاتية، كتاب لا يقاوم، ببراعة ثاقبة عرفّنا مريد بفلسطين وبرام الله تحديداً، بأزقتها وبناسها وبمناضليها، وبالأدباء والكتّاب والمفكرين والفنانين: ناجي العلي، غسان كنفاني، وديع حداد، بشير البرغوثي، أميل حبيبي، توفيق زياد، محمود درويش، فدوى طوقان.
من الصعب أن يعثر القارئ على سيرة تجمع بين الخاص والعام كهذه السيرة لما تحتويه من عناصر مؤثرة وبلغة رشيقة، زاوجت بين الأدب والسياسة بأسلوب راقٍ جداً، كتاب لن تبارحه قبل أن تبلغ نهايته لأسلوبه الشيق والنص المحكم الذي كُتب به.
أعدتُ قراءته للمرة الثانية هذه الأيام أثناء الحرب على غزّة فرأيت مناسباً أن أغيّر عنوان الكتاب، فالمهم هي فلسطين بجميع مدنها وقراها: رام الله، غزة، القدس، نابلس، البيرة، الجليل، يافا، حيفا، عكا، الضفة الغربية، رفح، جباليا، خان يونس، بيت لاهية، بيت حانون، طولكرم، دير البلح، حي الشجاعية، حي الشيخ رضوان، حي الزيتون، حي التفاح، تل الهوى، مخيم الشاطئ، حي الكرامة، مستشفى المعمداني، مجمع ناصر الطبي وغيرها من المدن والحارات والأزقة والمخيمات، والمجمعات والمستشفيات الطبية، الأسواق الشعبية، المدارس، الحضانات، المساجد، الكنائس.
لا يهمّ، فالقتل الإسرائيلي يطالهم جميعاً والدّم الفلسطيني يسيل فيها كلها، والتنكيل والتعذيب يطال الفلسطينيين أينما حلوا أو ارتحلوا، فهم في مرمى الصهاينة بكل ما أوتوا من صلف وعنهجية وهمجية وغرور، فكل تلك الأمكنة أهداف ميدانية مشروعة للعدو الصهيوني الجبان ولآلته العسكرية.
مازالت غزّة تحت نيران الاحتلال رغم مضي قرابة ثلاثة شهور على هذه الحرب المدمرة، ولم يبق شيء الاّ ودُمر، لم تبق حرُمات الاّ وانتُهكت، لم يبق شيخ أو طفل أو امرأة الاّ وقتل أو جرح والعالم يتفرج على هذه المذابح وكأنما الإنسانية أصبحت مثالاً حياً على انعدام الأخلاق والتواطئ مع وحشية المحتل. فالصهاينة كالعلق الذي يمتص الدماء، أوغاد يسرقون كل شيء حتى الموتى إن تسنى لهم ذلك دون أن تهتز ضمائرهم، إنهم قطعان متوحشة لا يأبهون بصرخات العُزل حتى وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة.
الشهور تمضي على هذه المجازر والاحتلال الإسرائيلي غير قادر على تحرير المخطوفين رغم كل آلة الحرب العسكرية والجنود المدججين بكل تلك الأسلحة الفتاكة والدعم اللامحدود من الامبريالية الأميركية والغرب المنافق. إنها غزّة، مقبرة للغزاة ودرس للعالم على قوة وبسالة المقاومة وإيمانها بقضيتها العادلة، ولا شيء ولا أحد بقادر على كسر إرادة شعب قرّر أن يخوض غمار معركته معتمداً على نفسه لتحرير أرضه كما هو حال الإنسان الفلسطيني، فقد أبهر العالم كله بهذا الصمود الأسطوري رغم كل هذه الخسائر، فقد توضح من خلال هذه الحرب بأن اليد الطولى هي للمقاومة، فهم يعرفون دهاليز كل الأماكن والممرات والمخابئ والمتاهات كراحة أيديهم، فذلك عالمهم السري، وما القتلى من الضباط والجنود الصهاينة الاّ دليل على بسالة هؤلاء المقاومين وبأسهم وشجاعتهم وقوة إرادتهم.
كلما أصرّ الكيان الإسرائيلي على دفن القضية الفلسطينية يخرج المارد الفلسطيني من تحت الرماد ليعيدها إلى الواجهة كما هو حاصل الآن فقد عرّف شعوب العالم بقضيته وحرّك مشاعرهم ولذلك نرى مقدار التضامن العالمي وحركة الشعوب المساندة لقضيته العادلة. فإسطورة إسرائيل الديموقراطية التي كانت راسخة لدى الكثير من الشعوب وبالخصوص الغربية تهاوت بأكملها وأصبحت سمعتها في الحضيض، بعد كل ما قامت به من تدمير وقتل وتهجير للفلسطينيين في حربها على غزة.
لاحظ مريد البرغوثي عن حق معاناة الشعب الفلسطيني في زيارته لمسقط رأسه في دير غسانة برام الله وكيف أنً المستوطنات تلطخ وتشوه ما تبقى من فلسطين “إنها ليس قلاعاً من الليجو أو الميكانو التي يلهو بها الأطفال …إنها إسرائيل ذاتها. إنها إسرائيل الفكرة والإيديولوجيا والجغرافية والحيلة والذريعة.. إنها المكان الذي لنا وقد جعلوهُ لهم”.
ويقول أيضاً: “في نكبة ١٩٤٨ لجأ اللاجئون إلى البلدان المجاورة كترتيب “مؤقت” …تركوا طبيخهم على النار آملين العودة بعد ساعات! ..انتشروا في الخيام ومخيمات الزنك والصفيح والقش “مؤقتًا”. حمل الفدائيون السلاح وحاربوا من عمّان “مؤقتاً ” ثم من بيروت “مؤقتاً” ثم أقاموا في تونس والشام “مؤقتاً”. وضعنا برامج مرحلية للتحرير “مؤقتاً”. وقالوا لنا إنهم قبلوا اتفاقية أوسلوا “مؤقتاً”.. الخ الخ. قال كل منا لنفسه ولغيره “إلى أن تتضح الأمور”.
أما في هذه الحرب على غزة فلربما رأى مريد البرغوثي غير ذلك، فكل ما هو مؤقت أصبح في طي الماضي وما عاد يفيد مع هذا الكيان الغاصب إلا التحرير بقوّة السلاح وبالمقاومة، لا بالاتفاقيات التي لا تُحترم من قبل هذا الكيان المسخ الذي لا يعترف بأي قانون أو أية اتفاقية، فلمنظمة التحرير الفلسطينية حصتها من الأخطاء عندما وقعت اتفاقية أوسلو في العام ١٩٩٣ والتي لم تؤد إلى سيادة فلسطينية حقيقية على غزة والضفة الغربية ولا إلى سلام ومصالحة بين اليهود والعرب، بل زادت من معاناة الشعب الفلسطيني وزيادة وتيرة القتل والاعتقالات وقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، بل إن “عملية السلام” كما كان يطلق عليها هي عملية تضليل وهذه التسمية “خاطئة بشكل مخيف” على حد تعبير المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد.
ماذا تحمل الأيام لغزّة ولفلسطين بشكل عام بعد أن تنتهي هذه الحرب المجنونة؟
سؤال مطروح على الفلسطينيين أولاً، وعلى المجتمع الدولي ثانياً: هل بمقدورهم استئصال المقاومة وهي المتجذرة عميقاً في الأرض ومحاطة بشعب جبار لا يهدأ ولا يستكين حتى ولو دمّروا ما دمّروا وقتلوا ما قتلوا فهو باق ما بقت شجرة الزيتون، فه هي الكمائن تُنصب لجيش الاحتلال والقتلى بالعشرات والمخطوفين الإسرائيليين تحت رحمة المقاومة ولا سبيل لتحريرهم إلا بشروط المقاومة: وقف الحرب ومن ثم التفاوض، فكل هذا الدمار الهائل لم يُحرر أسيراً واحداً، هذا هو الشعب الفلسطيني يلقن الصهاينة درساً لن ينسوه أبداً وسيظل يؤرقهم طالما بقوا في أي شبر من أرض فلسطين المغتصبة.
الشعور بالمرارة من شدّة ما وقع على غزة أمر مفروغ منه، ولكن هي ضريبة الحريّة والتحرر، فكل الشعوب التواقة للحرية تدفع هذه الضريبة الثقيلة من القتلى والجرحى والدمار والشتات الذي لم تنجُ عائلة فلسطينية منه. هنا في غزة كنت أتأمل الحال كما تأمل مريد البرغوثي رام الله بالعين مع كل مشهد قتل ودمار تكون الحقائق عن الاحتلال وهمجيته وتوحشه تجسيداً لا تجريداً “تبني ذاتها على تراب الواقع، لا على سراب الأفكار المسبقة” والقول لمريد، فمن منا لم ير غزّة إذن بعد كل هذا الدمار والخراب الذي أحدثه الغزاة الصهاينة؟