“ثلاثيّة غرناطة” بين الماضي الأندلسي والحاضر الفلسطيني

0
58

رضوى عاشور في هذه الرواية تأخذك إلى الماضي البعيد، إلى ما يزيد عن الخمسمئة وثلاثين عاماً، ماض سحيق ولكنه لذيذ، مُهيب ومُحزن ولا شك من إنه مجيد لكون المسلمين قد بنوا وأسسوا وعملوا وأنتجوا من الثقافة والأدب والعلم ما استفادت منه البشرية جمعاء فبقت آثارهم العلمية والفنية شاخصة حتى يومنا هذا.

أقرأها لأول مرة فأحتبس صابراً لإنجاز قدر أكبر ومجهود بالغ لمعرفة خبايا هذا الجهد المهول من المعلومات التي أتت بها الكاتبة لإتحافنا بهذه الرائعة الجمالية من السرد التاريخي والفني والعلمي، الغني جداً بالمدلولات اللغوية وبأسلوب رائع وجميل ومبهر ومعبر. وعندما أقول بأنها تحفة فنية فإن ذلك ينبع من المهارة في فنون السرد، خلق عالم بعيد تقرّبه إلى القارئ ما أمكن، فيعيش الحالة وكأنما هي الحياة تدور وتدور بنا منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا في أحداث اليوم وقضية اليوم غزّة وفلسطين، فما أشبه اليوم بالبارحة.

إنه التاريخ، فالأمر دائماً يتعلق بالتاريخ، كما تقول رضوى، فغرناطة وأهلها وعلاقة العرب بها وبهم هو تاريخ وإن مضى وانقضى، لكن تبقى رائحة الزمان والمكان باقية حيّة نتنسم عبير تلك الفترة لنبني عليه ونتعلم منه الدروس ومع ذلك لا نتعلم، نـحن لا نتعلم شيئاً مهماً من الدروس أبداً في هذه الحياة، انّما نتذكّر ليس الاّ. وأي دروس والعرب والمسلمون في تطاحن وأقرب إلى العدو منهم إلى بعضهم البعض، وما فلسطين الاّ شاهدة وشهيدة على كل ذلك!

تقول رضوى عاشور “خلق زمان مزدوج يتيح لنا معايشة الحاضر والماضي ومخاوف الحقبتين “فأي من الحقبتين نعيش نـحن؟ ألم نعش في هذا الزمن وذاك، حقبة واحدة ونـحن نرى بأم أعيينا ما يحدث من قتل وتعذيب وتشريد ودمار وكأنه الطوفان سلّطه الله علينا بلا نوح ولا سفينة: (التشتيت الجماعي لأهالي غرناطة ثم الترحيل النهائي لعرب الأندلس)، (التشتيت الجماعي لأهالي فلسطين والترحيل النهائي للعرب)، فما الفرق بين الأمس واليوم بين ما حدث في غرناطة والأندلس وما يحدث اليوم في غزة وفلسطين؟ أليس الفعل واحداً، والفاعلون وإن تغيّرت الأسماء هم أنفسهم رغم البعد الزمني والحُقب المتباعدة والواقع المتغير بين كل تلك الأزمنة والأمكنة. تقول رضوى: “تبدو المصائب كبيرة تقبض الروح، ثم يأتي ما هو أعتى وأشد فيصغر ما بدا كبيراً وينكمش متقلصاً في زاوية من القلب والحشا “.

لو بقت رضوى على قيد الحياة إلى يومنا هذا لرأت من المصائب ما هو أعتى وأشدّ وأنكى فيصغر ويصغر ويصغر ما بدا في تلك الحقبة وقد تُغيّر رأيها وتضيف إلى روايتها نكبة جديدة أشد وأقسى وأدهى وأمرّ.

 فنحن الآن في أم الكبائر، في مهزلة العقل البشري، بل في مرحلة الجنون البشري، وغزّة الجريحة شاهدة على ما نقول، فالعالم يقف متربصاً بهم متفرجاً عليهم وهم يُذبحون ولا ناصر أو مُعين، فأي عالم هذا وأي إنسانية بقت بعد كل هذه المذابح. إذن ذاك ماض وهذا حاضر. زمانان ولكن الفعل واحد والإجرام واحد والقاتل واحد والدسيسة واحدة، فما الذي تغير يا تُرى؟

ظلّ العرب والمسلمون في حالة المفعول بهم، منشغلين بما هو أهم: السلطة والسلطان وما أدراك ما السلطة وما أحلاه من سلطان. يرثي أبي إسحاق بالينسية (شرق أسبانيا) وكأنما يرثي غزة إذ يقول: “عاشت بساحتك الضبا يا دارُ/  ومحا محاسنك البلى والنار/ فإذا تردد في جنابِك ناظرُ/        طال اعتبارُ فيك واستعبارُ/ أرض تقاذفت الخطوب بأهلها/ وتمخّضت بجانبها الأقدار/ كتبت يدُ الحدثان في عرصاتِها/ لا أنت أنت ولا الديار ديارُ”.

رغم ذلك فإن رضوى تقول “التاريخ لا يعرف الخوف، إنه صاحب حيلة ودهاء، له مساربه ودياميسه ومجاريه، لا شيء يضيع، هكذا أعتقد”.  أتمنى أن ما تقوله صحيح، فالأندلس قد ضاعت وأراض أُخرى من المغرب وسوريا ولبنان وغيرها من الدول العربية، ونـحن الآن بانتظار ما تسفر عنه الحرب على غزّة، فلا مريمة في رواية ثلاثيّة غرناطة عادت للحياة بعد أن أنهكها المرض وماتت في دروب الخروج الكبير من غرناطة والهرب من البطش لتموت بين يدي حفيدها علي ولا سليمة نجت من الموت على أيدي محاكم التفتيش في إسبانيا ولا علي نجا من التشريد والطرد من أرضه وأرض أجداده، تركوا أراضيهم وبيوتهم وحاجياتهم ورحلوا هائمين على وجوههم في ديار الله الواسعة”.

واحسرتاه، أراض تضيع هناك وأراض تُفقد هُنا. ينسج محمود درويش في غرناطة وفلسطين نصه من خيوط الاقتلاع والفقد والحنين ” إذ يقول: “في المساء الأخير على هذه الأرض نقطع أيامنا/ عن شجيراتنا، ونعدُّ الضلُوع التي سوف نحملُها معنا/ والضلُوع التي سوف نتركُها هاهُنا/ … في المساء الأخير/ لا نُودع شيئاً.”

نجحت الكاتبة رضوى عاشور في انتاج شكل روائي غير مسبوق في وصف مرحلة من مراحل التاريخ العربي من خلال التعرف على ملامح تفاصيل تلك الأمكنة وإيقاعات الحياة اليومية فيها، وأبرزت لنا ما حدث من حرق للكتب، ثورة البيازين الأولى والثانية، التشتيت الجماعي لأهالي غرناطة ثم الترحيل النهائي لعرب الأندلس.

برهنت (ثلاثيّة غرناطة) على براعة مؤلفتها في نسج حبكة جميلة غنية بالإثارة والتشويق، ممتعة بكل تفاصيلها ومن كل النواحي، جعلت من إرث المسلمين والعرب في غرناطة إرثاً عالمياً، يمكننا القول بأنها رواية فريدة من نوعها، يستحق منا التامل حول ما كان عليه العرب والمسلمون وما غدوا فيه من ذلّ وبلادة ومهانة واستسلام وخنوع أمام الأعداء، فليتفضل المهتمون بالأدب والتاريخ بقراءتها لما لها من أهمية في وقتنا الحاضر ولما لها من عبر للمستقبل.