ما بَكتْ عيني يومًا مثلما بكتْ يوم رحيلك، حتى خُيّل إلي أنّ بياضهما سيسيل كلّه في يدي. أمسحهما بمنديل الذكريات، فتنهمر أمامي اللحظات التي تقاسمناها. كلّ لحظةٍ تجرّ أختها، منذ لقائنا الأول، لغاية الكلمات الأخيرة التي همستها في أذنك اليسرى، قُبيل مغادرتك المسرح يوم زيارتك الأخيرة. قبّلتُ بياض جبينك وقلتُ: “ترى أحبك أستاذ.. أحبك واجد”. وها أنا أنفضُ سجادةَ ندمي لأنني لم أذّيل كلامي – لحظتها – بطلب بسيط: أن تسامحني.
أكتبُ الآن، ولا نيةَ لي في رثائك – آه ما أوجعها من كلمة -، فأنا أصغر وأجبن من تعدادِ خصالك والتفجع عليك. لكنني أحاول أن أجاور الكلمة الكلمة فأصنع منها سُّلّمًا، أقفز منهُ فوق سور اليُتم. وليس في هذا اليتم شيءٌ من المجاز أو التشبيه يا أبتي. صحيحٌ أنّك لم تنجب أطفالًا، لكنّك جعلتنا جميعًا أبناءك ومريديك. واليوم أصبحنا يتاماك. علّمتنا كل الأشياء، ونسيت أن تعلّمنا كيف نتّقي نصل رحيلك، أو كيف نداوي نزف فقدك. أخذت بيدنا نحو كل الدروب، وتركتنا وحدنا في أوّل درب الحنين إليك، ولعمري إنّهُ دربٌ طويلٌ مضنٍ.
أكتبُ الآن، وأمسحُ أكثر مما أكتب، لأنني أشعر بالتيه. كلّما أشعلتُ قنديلًا يُبدّد دُجنة رحيلك، أطفأته لعنة الغياب. كلّما عضضت بنواجذي على أمل رؤيتك مجددًا، تسرّب من بين أصابعي كالماء. مُكرهًا أحملق في صورتك وراء كومة الكتب، فيك جالسًا على الكنبة في صالة المقر، في كأسِ قهوةٍ نسيتَه على الطاولة، في قشور الحب والمكسرات، في نبوة عينيك كلما دخلتُ المسرح وصرختُ: “هلا أستاذ”، في براءة وجهك الطفولي وبياض لحيتك، في شفتيك وأنت تقول: “يالله شباب.. بروفة بروفة”، في حوارٍ مُعلّق ونقاشٍ مؤجل لن يأتي، في لحافٍ تفرشه الأرض وتنام، في ستارة تنتظرك أن تفتحها، في كتابٍ تهديني إيّاه، في اتصالٍ يحمل سؤالك الدائم: “وينك حسين؟ مُر أبوي مُر”. ولا طاقة لي ولا احتمال على كل ما سبق.
أكتبُ الآن، لأني لا أعرف أي نافذة ستفتحها لتصرخ في وجه هذا العالم: “بالمشمش”. ولا أي نصٍّ مجنون يشبهك تشتغل عليه. هل سيرافق تجربتك القادمة منير سيف؟ هل سيكون نصًا لفريد رمضان؟ هل سيكتب عنه الدكتور إبراهيم غلوم؟ هل سيكون علي الشيراوي حاضرًا؟ هل سيمثل فيه إبراهيم بحر وعلي غرير وعبدالله وليد؟ وهل سيتحمل الأستاذ حمزة محمد إدارة انتاجه؟ ماذا عن سالم سلطان ومحمد عوّاد؟
أكتبُ لأنني لستُ بخير وحزينٌ جدًا.