عندما كنت طالبة أدرس في كلية العلوم بجامعة القاهرة، كنت أرى أن تشريح الضفادع هو من أشقّ الامور وأصعبها على نفسي، وهو تدريب لا بدّ منه للنجاح في مادة التشريح، وكنت أقول في نفسي: كم ضفدعة ستموت على يدي إلى أن أجيد هذه الممارسة المؤذية الكريهة، وأجتاز الامتحان فيها (بالمناسبة يتدرب الطلاب الآن في مادة التشريح على أجهزة بلاستيكية خاصة بدلاً من الضفادع الحية). بعد عام انتقلت إلى كلية جديدة وارتاحت الضفادع مني وارتحت منها. الكلية التي دخلتها لاحقا تضمّنت أيضاً بعض المواد الصعبة وغير المستساغة بالنسبة لي لكنها بدت لي سهلة جداً ولا ترقى إلى مهمة قتل الضفادع.
عندما تخرجت وولجت الحياة الوظيفية عرفت مهام شاقة مختلفة ومتنوعة ورحت اصنف شدتها وكلفتها وتأثيرها على نفسي ومدى قدرتي على مواجهتها بالقياس الى مهمة قتل الضفدعة، وبدا لي كل عمل سهلاً وميسراً ومقدوراً عليه. في هذه الفترة صار تعريفي للحياة هو “أن يزاول المرء شيئا سهلا ومقدور عليه ويحبه كي يبدع فيه”. بعد فترة تبيّن لي أن الممارسة اليومية لأي عمل سهل سرعان ما تحوّله إلى شيء رتيب وممل وفاقد لأي متعة. ثم ما قيمة الحياة بلا صعوبة ولا مشاق تضاهي تشريح الضفادع؟ يسأل المرء نفسه هذا السؤال كل يوم إذا استيقظ ذات صباح بلا نداء قوي ومشجع يدعوه لنبذ الكسل لخوض الصعاب وتجربة غير المألوف وتشريح اوصال الغامض والمجهول للوصول الى لب وجوهر الأشياء.
تشريح الضفادع الحيّة أو المخدّرة لم اهضمه ولم اتصالح معه ولم اتخطاه وظلّ يلازمني ويزورني في بعض أحلامي أحياناً، ربما هي حيلة العقل اللاوعي بتذكيري بشيْ ما، كتجربة أتخوّف من خوضها أو معضلة عسيرة على الحل.
وكنت قد سبقت بريان تريسي المختص في برامج تطوير الذات والذي نشر في مطلع التسعينات من القرن الماضي كتابا بعنوان “تناول تلك الضفدعة”، أي ابدأ بممارسة المهمة الأشق والاصعب في يومك، فإن كان أشقّ الأمور هو أكل الضفدع على سبيل المجاز فابدأ به، كان هدف الكتاب هو اتقان فن إدارة الوقت وترتيب الأولويات والانطلاق الذهني بسلاسة ذهنية وجسدية ودون معوقات.
تصنيف المهمات الحياتية يتغير مع الزمن، وما كان سهلاً وميّسراً في مطلع العمر قد يبدو قتل ضفادع في عمر متأخر، لكن من حسن حظ جيلنا أن تحوّل أداء أغلب الأعمال إلى عمل الكتروني سهل نمارسه من بيوتنا.
بيد أن تجارب شخصية وفحوصاً طبية لازمة كالدخول إلى نفق جهاز الرنين المقطعي أو تلقي حقنة التخدير قبل العملية الجراحية تبدو على شاكلة قتل الضفادع نسبياً، إلا أن ملاقاة وقائع سياسية كالحرب الظالمة على فلسطين ومتابعتها يومياً ومعاينة الهوان العربي والتواطؤ الغربي تبدو كابتلاع الضفادع والسحالي والصراصير، بل أشدّ إيلاماً، وحين أشاهد الإعلام العربي ووجوه المذيعين وهم يستعرضون الأخبار وينقلون قصص المجازر اليومية المروعة والمتكررة وحرب التجويع والتهجير القسري وتعثر المفاوضات وانسداد آفاق الحلول السياسية، اشعر بهمّ، وأرى الكدر والقنوط على وجوههم، وكم مرة ومنذ انطلاق الحرب قبل خمسة اشهر أقرر مقاطعة المتابعة أثر اليأس الذي يعتريني ويعتصر نفسي، لكني أعود إلى الشاشات مجدداً أملاً في بصيص أمل فلا أحظى إلا بمزيد من المرارة والأسى. لحظات كهذه ينتابني ذلك الاحساس الكريه الذي عرفته في حصة تشريح الضفادع ذات يوم من ايام السبيعينات، واعتقدت أنه شعور قد غادرته وتخلصت منه إلى الأبد. كان الله في عون اهل فلسطين وفي عوننا نحن أيضاً.