“مسكين هذا الرجل.. لا يبغي من الحياة سوى منطقها..”.
الراوي في المسرحية – وفي أماكن مختلفة من الحياة! –
يقال دائماً عن العنوان إنه العتبة؛ عتبة الفهم المبدئي للتالي، ولا يستثنى العرض المسرحي من هذه الرؤية؛ لأنه يعطي بُعداً آخر للعمل، سواء كان هذا عنوان العمل الأصلي – أي عنوان النص – أم كانت رؤية المخرج في استبدال العنوان بآخر أقرب إلى طريقة اشتغاله المسرحية.
وبعد العنوان، وقبل مشاهدة العمل، يهتم جزء كبير من المخرجين المسرحيين بكتيّب العرض الذي يشير إلى بوصلة المتن في المسرحية، وأيضاً رؤية التأليف والإخراج، وكلمة “واجبة” لإدارة المسرح، ومن ثم الطاقم الفني المشارك، ويمكن أن تكون أيضاً قراءة لكيفية اختيار صور الممثلين تحديداً؛ فهل تكون صوراً شخصية للتعريف بالأفراد فقط، أم صوراً فنية مقصودة لا تخرج عن مضمون العمل وتعزز له؟
كما يهتم المخرجون باختيار الصورة الأساسية أو اللوحة الفنية التي تتصدر هذا الكتيب، كما جاء في عرض المسرح الحديث بجمعية الشارقة للفنون الشعبية والمسرح “وليمة عيد”؛ عن محاوطة الأيدي المختلفة للشخص الذي سنعرف لاحقاً أنه “عيد” – وهذا اسمه المرتبط بالفرح مجازاً – وأول هذه الأيادي هي يد الزوجة المتسلطة ذات الأظافر الحادة القميئة الملونة، وأيادٍ أخرى مختلفة هي -أكيداً- لابنه وابنته وآخرين ممن لا يرغبون بهذا العيد في حياتهم، تحيط أيضاً بصورته ذات التعابير المغلوبة على أمرها، دائرة أخرى من الأقنعة ذات التعبيرات المختلفة، والتي تضيق عليه الخناق أكثر. فلِمَ يفعلون هذا بك يا عيد؟
أول مفارقة في مخايلة العنوان بين المعنى اللطيف الموحي بالبهجة لوليمة العيد؛ من حيث المناسبة وتجمع الأحبة، وبين ما يتعرض له البطل كفرد مغلوب على أمره من كل الأطراف، تبدأها الزوجة بشكوى تقدّمها لدى الشرطة عن مجموعة من القضايا “الفادحة” التي وصلت إلى أذية الجيران والمعارف، يقوم الزوج بارتكابها متعمداً، كأن يقضي حاجته البيولوجية في المرحاض، وليس في الشارع كما الآخرين! في جو من التعجب والاستنكار الشديدين على فعلته الشنعاء!
هكذا هو العمل، بأجوائه العجائبية التي تلامس أرض الواقع. فهذا العيد يعيش بناء على منطق المرحاض السابق؛ في أكوام من القمامة التي تملأ العقول والمنطق حوله، ولا عجب في سرده لرواية حقيقية – من زاويته – عن التهام طلبة لزميلهم وكأنَّه فعل معتاد وعادي! أو خيانة زوجته، معلمة اللغة الإنجليزية، مع المدير. فكلها تجابه بلا مبالاة تضع عيداً في صفوف المجانين، وكل ما يرويه هو محض خيال، أو قليل من نفحات جنونه التي يقر بها الجميع. لذا يجب ألا يعترض على استعمال فرشاة الأسنان لأصابع القدم، ولا لنوم القدم نفسها على المخدة مكان الرأس غير المهم تبعاً لتقديسها المهول على الرأس! ولا حتى على اغتصاب ابنته مراراً – وذكر في العرض بأنه (تحرش) تخفيفاً لوقع المفردة علـى المتلقين من الجمهور العام – أو تعدادها الرجال الذين اختارتهم بنفسها للمعاشرة، وسط مباركة والدتها وفخر شقيقها بالمستوى “الرفيع” الذي يرضيها ويرضي عائلتها!
ومع ملاحظة المقارنة التي وضعها العمل للرأس والقدم، رغم أهميتهما لجسم الانسان، إلا أن هذه الرمزية هي للتفريق بين ما يكون بين القاع والقمة في مكان يرتكب فيه كل شيء، وأي شيء، على نغمة “خنخنة” الخنزير التي يتبنى الابن إصدارها بين الحين والآخر، إمعاناً في تجسيد المكان العاج بالقاذورات في داخل أفكار الشخوص وحولهم. وعيد بطل وليمته، مثل “نيونز” متسلق الجبل في قصة البريطاني “هربرت جورج ويلز”، الذي قاده انزلاق قدمه ذات تسلق إلى “بلد العميان”، وهو عنوان هذه القصة التي يتكرر معناها على صور أشكال مختلفة ومتغيّرة، ويتفاجأ بألوان البيوت ذات الألوان الفوضوية، عديمة الأبواب والنوافذ أولاً، ثم ليتكشف لاحقاً العمى الذي أصاب الجميع بشكل قدري أو بتعمد! وحين يحاول التوجيه، تتم السخرية منه، ولاحقاً يقررون التخلص من عينيه؛ لأنها سبب جنونه كما يرون! هذه الرمزية مكشوفة تماماً، لكنها المفضلة في الإشارة إلى أمثال عائلة عيد ومن حولهم. فالبصر والبصيرة والوعي مشاكل لا تؤدي إلا لكوارث تهدد المنظومة، ومن الأجدى وأد أي مخالف للسائد حتى لا يزداد العدد وتؤدي إلى رفض وثورة نتيجة هذا التساهل منذ البداية. وبينما استطاع “نيونز” الهرب من مصيره المؤكد ليعود إلى مكانه، حيث يمارس الناس حياتهم ببصرهم كما خلقوا، لم يستطع “عيد” الإقدام حتى على الرفض أو التمرد، ولو اعترض فصوت المعارضة هزيل وضعيف ومعتاد؛ تماماً مثل الزي “الكاروهات” التقليدي الذي يرتديه، فهو منظم وأنيق، لكنه معتاد، ويتكيف مع تنسيقات أخرى من الملابس حسب المناسبة!
وانتهج الكاتب المصري يوسف مسلم، الفائز قبل سنوات بهذا النص في إحدى جوائز مسابقة مجلة “دبي الثقافية” في التـأليف المسرحي، الشكل العجائبي في الكتابة المسرحية، بدءاً من التلاعب اللفظي بالعنوان، وتشبيك الأحداث باللا معقول وعدم المنطقية، في شكل الكوميديا السوداء، وتضمين شكل الميتاتياترو – وهي تقنية المسرح داخل المسرح – حيث استولى الجرسون/الراوي على الجمهور الحاضر في مخاطبة مباشرة بوصفهم “الزبائن”، محذراً إياهم بعدم التفكير في الخروج من المسرح الذين حبسوا أنفسهم فيه بمحض إرادتهم. ثم يبدأ، فيما يشبه وقت العرض، في تمثّل الراوي بشخصية عرّاف الحدث، أو من يقوده بلا أدنى نسب له للفعل، بل إن الأحداث تأتي من الخارج وتراكم على ما هو داخلي، فلا تكون وقتها مدعاة لخيبة أو تساؤل.
أما المخرج الإماراتي إبراهيم سالم، الباحث دوماً عن الأفكار التي ترفع من وتيرة الإبداع لديه، فقد استعمل هذا النص لتحريكه إلى اتجاه آخر مرئي. فحين أنه لم يتخلَّ كثيراً عن النص المكتوب، إلا في ما يخص بعض الإرشادات المكتوبة للتوجيه، لكنه – بخبرته المحفورة بحب المسرح – استطاع إضافة العلامات الدالة التي تنقل “وليمة عيد” من عجائبية النص إلى غرائبية الإخراج! حيث النقد، والاحتجاج، ومناهضة القضايا والتقاليد الاجتماعية والنظم السياسية. لذلك بدأ العرض بـنشيد “نحن عياله أخص أخص”، على وزن “نحن غرابا عك عك”، على لحن مألوف للموسيقار المصري علي إسماعيل للطواف حول الأوثان قبل الإسلام، للدلالة على الحالة والتوحد مع الأصنام، مستخدماً الإسقاطات في تشابه الحالتين؛ إذ ضمَّن سالم علاماته التي تلمح ولا توضح، تاركاً التــأويل على باب الجمهور، كما لم يكتفِ بتصوير عيد الطبيعي في سلوكه المعتاد، من حيث رفض الخطأ والعيب والحرام إلا كائناً متخلفاً ومختلفاً عن كل من حوله، كونه في مجتمع يروج وينتهج العبثية في كل سلوكه وكل تفاصيله، ولأنه لم يستطع المواكبة والتكيف؛ فاستحق نهايته.
يقع “عيد” هذا الفرد آو الكيان أو حتى الدولة، ضمن طائلة الذنوب في الحياة؛ إذ نشهد عليه شهادة حية بأعيننا، ونواكب معاناته، إلا أننا جميعاً نقف عاجزين عن مساعدته، أو حتى منع الأذى عنه، وهو مهما قاوم هذا العدوان الذي يأتيه من أهله قبل أي جهة خارجية، فلن يكون هذا مجدياً، فالقوات غير متكافئة على الإطلاق، ولن تكون بمقاييس العقل التي يدفع بها العمل إلى عدم الالتفات إليها، في ظل عدم اللامعقول الحاصل في الواقع! وهي كما “بلد العميان” الذين يحاربون كل مبصر، أو حتى من لديه بصيص نور، يتقوقعون داخل طوائفهم ومذاهبهم وأديانهم وتوجهاتهم الفكرية والفلسفية، ومواقفهم من بعضهم أيضاً، ويقينهم أنهم المختارون، وأي مخالف سيؤكل كما عيد، وسيغدو وليمة محتملة قادمة.
خلق المخرج إيقاعه الخاص عبر طاقم عمله من الممثلين الذين لوحظ انسجامهم في الأداء على الخشبة، نتيجة التدريب العالي المنظم، والمعرفة برسالة العرض مع الإضافة المقصودة، في تضمين الإيحاءات التي تنقل حالة عيد؛ من مضطهد أسرته ومجتمعه، إلى مضطهد من قبل جهات مسيطرة خارجية هي التي تودي به إلى حتفه، وتقطّعه – عبر أهله – إلى قطع صغيرة، وتتفنن في نثر دمه على مرأى ومسمع من الجميع، دون أن يكون لأحد حق الاعتراض.
كرّس عرض “وليمة عيد” ثيمة القبح شكلاً من أشكال العيش التي نحياها واقعاً، ولسنا ببعيدين عنها، كأننا يجب أن نعتاد عليها، وإن لم نخلق بها، وأن تكون تلك الصيغة الجديدة للحياة التي تثبت أن البقاء للباغي القوي، وأما الضعيف المستكين فسيؤول مصيره ليكون وليمة تشبه “وليمة عيد”.