إصرار بحدود السماء ومخيّلة حيّة “قناع بلون السماء”

0
34

من ضيق السجون الى رحابة الحياة كُتِبت هذه الرواية، ولكن ماذا إذا كانت الحياة الخارجية بحد ذاتها عبارة عن سجنٍ خانق! إنه حال الفلسطيني السجين في مخيمات اللاجئين المكتظة أو المدن الضيقة المحاصرة بجدران الفصل العنصري المعزولة عن العالم. من ظُلمة سجنه يكتب باسم خدقجي روايته هذه “قناع بلون السماء” فينطلق بمخيلته وذكرياته الى عالمٍ أرحب وأكثر اتساعاً من حياة المدن المحاصرة، يحاول مسائلة الواقع وإعادة صياغته. 

نور الفتى الهادئ جداً، الأشقر ذو العينين الزرقاوين له ملامح تشبه اليهود الأشكناز (يهود قدموا الى فلسطين من أوروبا الشرقية)، يعثر بالصدفة على بطاقة هوية لأشكنازي فقدها في أحد شوارع القدس، يلحظ نور في الصورة التي في الهوية شبه كبير به من حيث الملامح، فيأخذها. كان نور المهتم بالأركيولوجيا (وهذا التخصص بالذات يحتكره الإسرائيليون) يعمل على بحث تاريخي يفتش فيه عن تاريخ وجود مريم المجدلية، وهو لن يستطيع العمل على بحثه دون الدخول الى الجامعة والمعاهد المختصة ومواقع الحفريات، وكفلسطيني محاصر يستحيل عليه القيام بذلك فيضطر الى أخذ الهوية المفقودة وارتداء القناع الإشكنازي، هذا القناع سيسمح له بممارسة حياته بشكلٍ طبيعي كأي مواطن في العالم. 

يعيد باسم خدقجي سؤال الهوية بالتزامن مع بحث نور عن السيرة التاريخية للمجدلية من خلال الوثائق والمخطوطات التي عثر عليها. ما الهُوية؟ ما حدودها ومداها؟ هل هي أعطية أم شيء مكتسب أو متوارث؟ هل تتغير أو تلغى بمجر إلغاء أو إضافة بطاقة الهوية أو المظهر الخارجي؟ هل للعقيدة التي يتبناها الفرد أو انتمائه للمجتمع من عدمه دور في إلغاء الهوية أو اكتسابها؟ أم أنها الرابطةُ الثقافية المكانية والتاريخية للأفراد والجماعات ضمن بيئتهم، ثم كيف يمكن الوقوف ضد الاستيلاء على الهُوية والثقافة ومصادرتهما!

نور بالعربية أو أور بالعبرية الشخصية التي سيجعلها الكاتب باسم خدقجي شخصية محورية، يقابلها صديقه المفضل مراد الأسير الذي يقبع في سجون الاحتلال والمحكوم بأحكام طويلة الأمد. لم يتخلَ باسم طيلة الرواية عن الشخصية المرادفة (مراد) ربما لأنها تمثل انعكاساً للكاتب، إذ أن الكاتب باسم خدقجي أسير في سجون الاحتلال حتى الآن، وهو محكوم بالمؤبد لا لشيء سوى أنه صادف وجوده مرور دورية صهيونية لتُلقي القبض عليه، ثم يتهم هكذا دون دليل بأحكام اعتباطية تصل الى المؤبد ليقضي ما تبقى من حياته (وهو شاب) في السجن ظلماً. تتقاطع شخصية مراد مع الكاتب باسم في نواحٍ عدّة منها طريقة الاعتقال الهزلية وإكمال التعلم والدراسة بالحد المتاح من داخل السجن والتأليف والكتابة منه أيضاً. وبقوة المخيلة وروح المثابرة ينطلق باسم مع بطله نور/أور لينسج خيوط روايته ويُلبس بطله أقنعة منها قناعه الأشقر الذي سيصير من خلاله أور الأشكنازي.

يرحل أور إلى القدس بشخصيته الجديدة وقناعه وبسبب هويته المصطنعة وشكله الأشقر تنفتح له جميع الأبواب ليرى الفارق بين حياة الفلسطيني المحروم من كل شيء واليهودي القادم من بلاد بعيدة المتاح له كل شيء. تعكس خطابات نور الى صديقه مراد، روح الأسير التي تتوق إلى الحرية من الأسر وحرية الوطن المعذب من سطوة الاحتلال، نور شخص حُر لكنه أسير في وطنه وأرضه، إنه الفلسطيني حين يعاني من الظلم وقسوة الحياة ولا عدالتها وهذه حالة الكاتب نفسه، إذ نلحظ تناصاً كبيراً بين مؤلف الرواية وشخصياته…في الوضع العادي يكون الواقع هو الباعث على المخيلة لدى كاتب الرواية، بينما الأمر مختلف عند باسم وأقرانه الذين يكتبون أدباً ليس فحسبُ  عن السجون إنما من داخلها إلى العالم، فالمخيلة فيه تحاول أن تستكشف وتستلهم الواقع لتنسج خيوط السرد من ذلك الواقع البعيد القريب، الحقيقي إلى حدّ الخيال. 

يكسر نور قيده بقناع من أجل تحقيق طموحه ويتفاجأ أن الكثير من الأشياء صارت منتحلة مسروقة، كل الأشياء قابلة للسرقة، فقد سرق الصهاينةُ الحقائق، الأسماء، التصنيفات، أصبحت الأمور والأشياء كلها مقلوبة كأن العالم كله يمشي مقلوباً رأساً على عقب، حتى الأسماء والشخصيات لابد أن تكون مقلوبة: “هكذا يصير المقدسي المحتج على تدنيس حرمهِ وركنه المقدس مثيراً للشغب ومخرباً، وحي الشيخ جراح ينقلب الى حي شمعون هتصديق، ونور الشهدي يستحيل أور شبيرا…”

في ظل الاحتلال القائم على الفصل العنصري والتمييز الديني والعرقي، فإن للدين -ولو بالاسم -والمظهر الخارجي دوراً كبيراً في تحديد هوية الفرد، وفقاً للمعايير الصهيونية الكولونيالية، فإن الملامح تصنيف مسبق تعطيك امتيازاً إضافياً، إن الملامح هنا تستمد معانيها من العنصرية التي تعطي الأحقية الإلهية في التصورات والأحكام المسبقة التي تقترب بفعل الإيهام من القدسية. إن المشهد الحواري الذي ينهي به الكاتب الفصل الثالث من القسم الثاني للرواية بين نور و أور، يجسد الحالة الفلسطينية، حالة الصراع بين ما هو كائن وما هو محتمل، بين الحقيقي والزائف، بين الواقع والوهم، بين أناة نور وأناة أخرى داخلهُ، بين الشيء وظلّه، بين فلسطين الجوهر الثابت واسرائيل العَرَض الطارئ الزائل مهما تعاظم. يحمل نور كل هذه التناقضات داخله؛ نقتبس جزءاً من المحاورة التي يقول فيها: 

“نور- الأن أصبحت تعترف بوجودي بعد أن تسللتُ إلى داخلك!

أور- بل انتحلتني…كما أنك لا تعرف عني شيئاً سوى بياناتي المتوافرة في بطاقة هويتي وصورتي التي استبدلتها بصورتك…أنت لا تعرف شيئاً. لا تعرف إذا كنتُ متزوجاً أم لا؟ ماهي طبيعة عملي؟ ما أحب؟…

نور- وما حاجتي لكل ترهاتك هذه؟ تكفيني مزاياك، ملامحك، اسمك الزاخر بالهوية الإشكنازية الصهيونية. أريد أن أدرك حقوقك التي اخترعتها أنت فوق هذه الأرض، حقك بالوجود، بالحرية، بالحركة، بالاستيطان، بالاحتلال، بالاعتقال، بالاغتيال، حقك بتشريدي ومصادرتي ومطاردتي وإقصائي وتهميشي، أريد أن أتعلم الأسماء الصهيونية كلها لكي أقوى على مواجهتك”   

على الرغم من التناقضات المشتتة إلا أن التناقضات كلها عند المجدلية متحدة، فالكل واحد والواحد الكل. يصل بحث نور/ أور إلى نقطة ارتكاز مفادها أن الثنائيات تتحد في المجدلية، فهي ذاتها تمثل الخير والشر، الخطيئة والتوبة، الملاك والشيطان…تُرى هل أن نور بتقمصه لأور قد جمع الحضور المثالي للمتناقضات من مثل: المحرر والمحتل!

في رواية “قناع بلون السماء” تقرأ رواية وبحثاً تاريخياً أو لنقل تحليلياً متضمناً في الرواية متداخلاً بشكل سلس مع أحداثها أو منفصل عنها أحياناً مثل شرود تأملي. والغاية الماثلة هي مواجهة التغريب والاغتراب معاً، الذي يتمثل في محور الرواية وهو إصرار نور في البحث عن المجدلية وتقديم رواية تتحدث عنها لتواجه بالتالي رواية دان براون “شيفرة دافنشي” حين حاول براون انتزاع ثوب المجدلية التاريخي الجغرافي الفلسطيني وإلباسها ثوباً غربياً لا يناسبها. أرى أن  الكاتب الأسير خدقجي أبدع في كتابة الرواية بأسلوب ذكي وشيّق وفي التنقل بين الأصوات وربط الأحداث. هي رواية مميزة بحق وهادفة تنقل للقارئ شيئاً من معاناة الشاب الفلسطيني وتطلعاته للمستقبل وعن آماله وآلامه، والأهم إصراره وعزيمته رغم كل الظروف…الحرية لباسم خدقجي ولجميع الأسرى.