«هنا -عزيزي ماكس- رجائي الأخير: كلّ ما يمكن العثور عليه فيما أتركه بعدي (أي في مكتبتي، أو في خزانتي، أو لدى سكرتيرتي، في المنزل أو في المكتب أو في أي مكان) … من دفاتر ومخطوطات ورسائل شخصية أو غيرها. يجب حرقه دون قيود ودون قراءته». لا تزال هذه الوصية من فرانز كافكا إلى صديقه ماكس برود قبل 123 سنة تُسيل حبرا كثيرا، فقد أُلّفت حولها كتب ونُشرت مقالات لا تحصى كلها تحاول الإجابة على سؤال إشكالي: هل يحق للوصيّ أن يخالف رغبة الموصي بعد وفاته إذا ارتأى أسبابا موجبة لذلك؟ وبعيدا عن هذه الصياغة القانونية الجافة للسؤال يمكن طرحه في موضوع كافكا بالشكل التالي: هل كان ماكس برود محقّا في نشر كتب كافكا ويومياته رغم وصيته بحرقها؟
رغم الاعتبارات الأخلاقية التي تعتبر نشر ماكس برود لكتب كافكا فعل خيانة ومخالفة لرغبة مكتوبة وموثّقة من صاحبه غير أن القيمة الأدبية العالية لروايات «المحاكمة» و«القلعة» و«أميركا» -التي بدونها نستشعر نقصاً كبيراً في فهم المشروع الكافكوي الأدبي- جعلت كثيرا من قرّاء كتابات كافكا والنقاد يغضون النظر عن ذلك ملتمسين أعذارا كثيرة لبرود فهو صديق كافكا المقرب وأعلم الناس إن كان يوم أوصى بحرق كتبه في مزاج سليم يؤهّله لقرار كهذا، ثم إن برود نفسه كاتب ناجح غزير الإنتاج يستطيع تقدير القيمة الفنية لمخطوطات كافكا التي بين يديه وكونها تشكل إضافة إبداعية لأدبه كما بيّنته بتوّسع بديعة أمين في كتابها « هل ينبغي إحراق كافكا؟»، ويكفي أن نذكر جملة شهيرة لميلان كانديرا في كتابه «الوصايا المغدورة» يثمّن فيها ما فعله ماكس برود وإن كان يعيب عليه تأويلاته للنصوص الكافكوية «لولا برود، لما كنّا نعرف اليوم حتّى اسم كافكا».
وهذا الجدل القانوني والإنساني والأدبي يطفو على السطح كلما صدر كتاب جديد لكاتب متوفّى بين مؤيد ورافض ومنكر أن ينسب العمل إلى الكاتب الميت، وهذا المعنى نجده حتى في المصطلح الغربي الذي يصف هذه الحالة، فلفظة (posthumous) الإنجليزية ذات الأصل اللاتيني تعني الكتاب الذي صدر بعد وفاة مؤلفه كما تعني في أصلها الطفل الذي وُلد بعد وفاة أبيه، وكم من حالة شكّك فيها الآخرون في صحة نسب الولد، مثلما هو الوضع تماما في مجال الكتب.
وإذا كنا نجد بعض العذر في نشر كتب كافكا بعد أمره بحرقها فلأنها كانت مكتملة قد أنهاها كاتبها قبل وفاته، ولكن الإشكال يكبر في حالة المخطوطات غير المكتملة ومسودات الكاتب، فمن سنة 1977 مثلا إلى أكثر من ثلاثين سنة بعد هذا التاريخ كان عشاق الأدب عامة وروايات صاحب «لوليتا» الروائي الروسي فلاديمير نابوكوف خاصة بين مد وجزر حول رواية تركها غير مكتملة في بطاقات مكتوبة بقلم الرصاص، وكان قد أمر بحرقها هو أيضا، ولكن أرملته فيرا لم يطاوعها قلبها بتنفيذ وصية زوجها فتركت البطاقات في علبة حتى وفاتها سنة 1991، وحين ورث ابنه دمتري أصول هذه الرواية غير المكتملة وعنوانها «أصول لورا» أودعها في قبو بنك وعاش صراعا كبيرا بين أن يحرقها، وبخاصة أن هذه رغبة والده وقناعته التي عبّر عنها مرة في رواية «حياة سيباستيان الحقيقية» أول رواية كتبها بالإنجليزية حين يصف شخصية كاتب يوصي أخاه أيضا بحرق مسودات كتبه فيكتب نابوكوف «هذا النوع النادر من الكتّاب الذين يعرفون أنه لا ينبغي أن يبقى شيء سوى الإنجاز المثالي»، وبين أن ينشرها وهو مترجمُ كتبِ والده والعارف بنقاط قوتها فقد وصف الرواية غير المكتملة في أحد لقاءاته الصحفية بأنها «التقطير الأكثر تركيزا لإبداع والدي»، وفي الأخير وبعد تشويق كبير ساهم الصحفيون في تأجيج ناره بعناوين مثل «هل على ابن نابوكوف أن يهيّئ علبة الثقاب؟» خضع دمتري نابوكوف لشهوة النشر وذلك في سنة 2009، ولعل للمردود المادي من مسودة رواية كتبها والده قبل اثنين وثلاثين سنة دورا في ذلك.
وإذا كانت رواية نابوكوف نُشرت كما هي دون رتوش وهذا من أسباب عدم مهاجمتها من النقاد باعتبارها رواية غير مكتملة، فما حدث مع رواية «فرنسواز ساغان» كان أسوأ حظا من الناحية الأدبية. فهذه النابغة الفرنسية ابنة الطبقة البورجوازية كتبت روايتها الأولى «صباح الخير أيها الحزن» وهي في الثامنة عشر من عمرها ونالت من ورائها شهرة عظيمة ورغم أنها كتبت روايات عديدة بعدها، وبعضها ناجح مثل «هل تحبّ برامس؟» غير أنها بقيت أسيرةَ روايتها الأولى فلا تُعرف إلا بها، واختفى اسم ساغان تدريجيا من الساحة الأدبية لطبيعة حياتها المجنونة من ولع بالسياقة المتهورة وتعاطي المخدرات ولعب القمار وإدمان الخمور إلى أن توفيت سنة 2004 فقيرة ترزح تحت دَين كبير، وبعد خمسة عشر عاما من وفاتها ظهرت لها رواية جديدة بعنوان «أركان القلب الأربعة» أشرف عليها ابنها ووريثها «دونيس فستهوف» الذي سبق له قبل ذلك بسنوات أن ألّف كتابا عن أمه بعنوان «ساغان والابن» ورغم أن الرواية طبع منها 250.000 نسخة، وصدرت منها طبعة للجيب كتب الناشر على غلافها للترويج «نتعرّف بسعادة على مرح (ساغان) ولا مبالاتها وأناقتها وإيمانها القليل»، غير أن مسار الرواية لم يكن ورديا كلّه، فدونيس كان قد عرض المخطوط على مدير دار نشر شهيرة فلم يقتنع به واقترح عليه إعادة كتابته. وطبّق الابن الاقتراح مع دار نشر أخرى، ورغم أنهما (الابن والناشر) هوّنا من حجم التدخل إلا أن صحفيين ونقادا تساءلوا: هل نحن فعلا أمام رواية جديدة لساغان؟ أم تجميع قطع بازل قام بها ابنها؟ وكانت نتيجة هذا العمل أن عادت أعمال الروائية الشقيّة إلى الواجهة فأعيد طبع كتبها، وسدّد ابنها مبلغ 1.200.000 يورو من الديون التي أورثتها له ساغان مع عائدات نشر أربعين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية لها.
ولا أعتقد أن هذا الظهور المفاجئ لروايات الموتى – وأؤكد على الروايات باعتبارها عملا إبداعيا بنائيا – سينتهي يوما، ما دام المبدع يكتب والقارئ يتابعه، والضجة التي أحدثها قبل شهر صدور رواية «حتى أغسطس» لرائد الواقعية السحرية صاحب نوبل غابريال غارسيا ماركيز بعد عشر سنوات من وفاته تأكيد على استمرارية هذا النزاع بين مؤيدي النشر ورافضيه. وخاصة إذا عرفنا أن ماركيز أمر أيضا بإتلاف روايته التي بدأ الاشتغال بها منذ سنة 1997 وقرأ مقاطع منها بصوته في جامعة جورج واشنطن في ذلك العام، غير أن انشغاله بكتابة سيرته الذاتية ورواية «ذكريات غانياتي الحزينات» حالا دون الوصول برواية «حتى أغسطس» إلى صيغة يرتضيها بعد أن أعاد صياغتها عدة مرات كما تشهد بذلك مخطوطاتها الخمسة المحفوظة مركز «هاري رانسون» التابع لجامعة تكساس الأميركية التي اشترت أرشيفه الشخصي الكامل بُعيد وفاته. ولكن ولداه رودريغو وغونزالو قررا نشرها رغم أنّه قال لابنه الأصغر غونزالو أن الأَولى بهذه الرواية أن تختفي، مبررين ذلك بأنهما على ثقة بأن أباهما سيسامحهما حين يستمتع بها القراء كما كتبا في مقدمة الرواية وأضافا: «لقد فكرنا لمدّة ثلاث ثوان هل هذه خيانة لوالدينا؟ لرغبات أبينا؟ وقرّرنا: نعم هذه خيانة، ولكن هذا ما يفعله الأولاد»، فهل هذه الحجج مقنعة؟ أم إنها ليست سوى مبررات تغطي من ورائها «جشع الورثة» كما كتب صديقي الروائي الراحل خالد خليفة قبل سنة عن الموضوع، وهذا رأي وجيه وخاصة إذا علمنا أنهما باعا حق الاقتباس التلفزيوني إلى نتفلكس لتحويل رواية والدهما الأيقونة «مئة عام من العزلة» إلى مسلسل، علما أن ماركيز كان يرفض كل العروض التي تقدم له لتحويلها إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني، ولكننا حين نعلم أن منتجي المسلسل على منصة نتفلكس ليس سوى الأخوين رودريغو وغونزالو تتضح الحقيقة.
وما نخشاه أن يأتي علينا يوم – وما ذلك بمستبعد – يعهد ورثة روائي مشهور إلى تطبيق للذكاء الاصطناعي ليُتِمَّ رواية غير مكتملة لمورِّثهم بأسلوبه، فالجشع يريد المزيد دائماً.