الذكاء الاصطناعي والحقوق العمالية

0
58

ها أنا أخرج كل صباح مع زوجتي إلى ممشى توبلي للمشي على ساحل خليج توبلي حيث جعلتُ ذلك طقساً يومياً بعد صلاة الفجر منذ التقاعد. وها أنا أرى هذا المشهد اليومي الذي يتكرر بنفس الرتابة وبنفس الأشخاص حيث في الفلل التي تبنى بقرب الساحل وبرغم أنها تبدو من التصميم الخارجي – على الأقل – أنها فلل ستكون على أحدث نظُم تقسيم البيوت وتوزيع الغرف والمرافق، لكنها – وهنا المفارقة – تُبنى بأكثر طرُق البناء بدائية وتخلفا. فها هما العاملان البنغاليان نفسيهما يرفعان مواد البناء على بكرة بدائية فيقوم الذي في الأسفل بسحب الحبل أو السلك المثبت بالجردل أو السطل إلى آخر مدى مما يضطرني للتوقف أو للمرور بسرعة بسيارتي ولكن بحذر لكي لا أصدمه أو أعطل حركته. ثم يقوم بعد ذلك العامل الذي في الأعلى بسحب السلك أو الحبل رافعا مواد البناء إلى الأعلى في عملية لا أعرف كم مرة تتكرر في اليوم.

كل ذلك وكما يقول البحرينيون – الشيء بالشيء يُذكر – يذكرني بما قرأناه ولم نرهُ رأي العين بالسيب والغيص في فترة الغوص. فالغيص ينزل بالحبل مع الثقل الذي يجعل نزوله سريعا ثم بعد ثوان يقوم السيب بسحب الغيص بالحبل إلى خارج الماء عندما يكون الغيص قد عبأ السطل أو الجردل بالمحار الذي اصطاده ليفلقه على سطح السفينة ولعله يكون مليئا باللآلئ أو لعله فاسد لا شيء فيه.

ثم ها أنا بعد الضحى في منطقة حديثة مثل السيف أو غيرها أنظر من نافذة المقهى إلى أحدث المباني وهي تُشيّد بأحدث الأساليب حيث لا حبل ولا جردل ولا ساحب ولا مسحوب. ما أراه هو مصعد يرفع العمال ومواد البناء على منصات متحركة عموديا آمنة من الخطر. وهنا تلتقي الطريقة والنتيجة فكلاهما حديث ومتطور، البناء والمبنى. تماما بعكس التناقض الذي وجدته في فلل توبلي حيث النتيجة متطورة والطريقة متخلفة. الفللُ حديثة تنتمي للقرن 21 والطريقة بدائية تنتمي للعصور الوسطى أو ما قبلها.

أنظر من بعيد إلى أقدام العمال هنا في السيف وأياديهم فأرى أحذية السلامة المتينة وقفازات الأيدي المعتمدة وقبعات الرأس اللامعة وأحزمة السطوح العالية، والأجسام المغطاة ببدلة موحدة جميلة بلونها العمالي الأزرق تذكرني بلباسي في المدرسة الصناعية الثانوية ثم في مصنع الحديد والصلب حيث عملتُ منذ 1984 – 2020، كلها وفق أحدث معايير السلامة، وأنظر هناك إلى  أسمال العمال في مباني توبلي فلا أرى إلا أحذية متهالكة إن لم تكن أصلا نعالا لا أحذية، وأرى أيديهم بلا قفازات بل تكاد تبدو متشققة بلمس الحديد والإسمنت والكونكريت ورؤوسهم بلا قبعات. وهنا أتساءل أين إذن أضع هؤلاء في مبادرات منظمة العمل الدولية التالية:

  • إعلان فيلاديفيا لمباديء وأهداف منظمة العمل الدولية – 1944
  • إعلان المبادئ للحقوق الأساسية في العمل – 1998
  • تدشين مفهوم العمل اللائق – 1999
  • إعلان العدالة الاجتماعية 2008
  • مبادرة مستقبل العمل – 2015
  • الميثاق العالمي للمهاجرين GCM 2018
  • تحديات العمل مع الذكاء الاصطناعي (AI) 2020 فلاحقا

لقد كان من ضمن الأسئلة التي طرحها علينا أحد أساتذة الدورات النقابية، لماذا تعتقدون أهمية وجود معايير عالمية موحدة للعمل؟ وكان جوابه على سؤاله، السبب هو لكيلا يكون اختلاف بيئات العمل سببا لاختلاف معايير العمل. أي لكي تكون أضعف بيئات العمل وأقلها إمكانية سواء بسواء مع أرقاها حين يتعلق الأمر بحقوق العامل في الأجر والحماية الاجتماعية والسلامة المهنية.

هل هذا ممكن حقا؟ هل هذا حُلم أم حقيقة؟

أن نضمن معايير للسلامة والصحة المهنية والعمل اللائق والأجر العادل في ورشة منسية لتقطيع الحديد أو الخشب في سلماباد أو لتصليح الدراجات في توبلي فيها عمال بعدد الأصابع كما نضمن هذه المعايير في أكبر شركة مثل ألبا أو بابكو؟؟ وإن لم يكن ذلك ممكنا فما قيمة معايير يُستثنى منها الأضعف والأشد حاجة إليها، حيث هناك تناسب عكسي بين ظروف العمل و الحاجة إلى معايير العمل، فكلما انخفض مستوى ظروف العمل زادت الحاجة إلى معايير العمل.

ليس الذكاء الاصطناعي (AI) جديدا و لا تأثير الأتمتة على العمال يحدث لأول مرة.

في هذا العام 2024 وقبل أن ننسى نحتفي بمرور 70 عاما على تأسيس أول اتحاد للعمال في البحرين هو (اتحاد العمل البحراني BLF) في عام 1954، ومرور 20 عاما على تأسيس ثاني اتحاد للعمال في العصر الحديث هو الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين GFBTU حيث تأسس في 2004. أما في العام القادم 2025 وهنا محل الشاهد فنحتفي بمرور 60 عاما على انتفاضة 1965 العمالية وهي التي جاءت على إثر تسريح مئات العمال من شركة تكرير النفط بسبب إدخال الميكنة إلى مصنع التكرير والتي تعادل آثارها تماما ما يفعله الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل اليوم في القرن الحادي والعشرين. لقد درسنا حتى الآن هذه الانتفاضة نضاليا لكننا نحتاج أيما حاجة لدراستها اقتصاديا وتقنيا باعتبارها اللحظة الأولى المؤسِسة في البحرين في العصر الحديث لظاهرة التناقض بين تطور وسائل الإنتاج ومستوى قوى الإنتاج وقس على ذلك وصولا إلى الذكاء الاصطناعي اليوم.

ماذا أعددنا من دراسات ومن مقاربات علمية ومهنية لعالم عمل أقل ما يقال عنه أنه مجهول ومخيف ويبشر بتسريح الآلاف لعدم الحاجة لهم في المكاتب والمصانع؟

التناقض هنا يتصاعد أمامنا بقوة بين عالمين. عالم يغادرنا كانت فيه الخدمات مثلا بحاجة إلى عشرات الجالسين وراء مكاتبهم لتخليص معاملاتنا في وزارة أو إدارة خدمية ما، وعالم نتمكن فيه من الحصول على ما نريد online بأسهل الطرق. تناقض بين مصلحتنا كمستهلكين للخدمة أو للسلعة نحتاج إلى أن نستمتع بسرعة وسهولة الخدمة / وبين مصلحة القوى العاملة التي عليها القبول بأن تُركن إلى التقاعد الإجباري أو الاختياري. فقط خذ هذا المثل في القطاع الخدمي العمومي وطبقه على مصنع أو على مدرسة أو على مستشفى أو حيثما تشاء.

عودتنا منظمة العمل الدولية ILO على التفاؤل دائما فهي تقول دائما على العكس مما نظن، فإن التطور التقني وصولا إلى (AI)  الذكاء الاصطناعي، يجب أن يقود إلى مزيد من الفرص ومن الحقوق العمالية.

في هذه الدراسة مثلا: ILO study finds AI to complement, rather than replace jobs (bignewsnetwork.com)

والتي جاءت في تقرير صدر في أغسطس 2023 يمثل منظورا عالميا حول التأثير المهني للذكاء الاصطناعي (AI) على المهن (Occupations)  وعلى المهام (Tasks) بأن الذكاء الاصطناعي لن يدمّر بل سيكمّل المهن. ويقول التقرير سيكون تأثير الذكاء الاصطناعي على المهام وليس على المهن، وهناك فرق بين الإثنين. فحين نقول المهن فنحن نعني مجمل الوظيفة أما حين نقول المهام فنحن نعني أجزاء منها. ووجد التقرير أن العمل الكتابي هو الأكثر عرضة للتأثيرات بينما سيكون التأثير أقل على المهندسين والعاملين الفنيين.

وهناك أمر أيضا قد يجعلنا نحمد التخلف وهو أن تأثيره في الدول المتقدمة سيصل إلى 5.5% بينما لن يتجاوز 0.5% في الدول الأقل تقدما!! على أن التقرير يخلص إلى أن الأمر سيعتمد في نهاية الأمر على كيفية التعامل مع هذه المتغيرات.

من الممكن حسب بعض الخبراء أن يكون Chat GPT فرصة رائعة لمزيد من الازدهار في عالم العمل بشرط وجود رؤية تنظر إلى عالم عمل موحد لا تكون فيه بيئة العمل البسيطة متروكة في زوايا النسيان. من هذه الفوائد المتوقعة من الذكاء الاصطناعي ما يلي:

  1. تعزيز الكفاءة وصنع القرار
  2. تحديد المخاطر بدقة أكبر ومنع الحوادث
  3. تنمية المهارات والارتقاء بها
  4. الحد من عدم المساواة في التوظيف والترقي، فحين يكون الاختيار بدرجة آلية يقل التدخل البشري المتحيز
  5. حماية الخصوصية والسلامة الشخصية
  6. خلق بيئة عمل أكثر عدالة

لكن خلاصة القول إنه من المؤكد أن جميع صناع القرار في عالم العمل من حكومة وأصحاب عمل ومنظمات عمالية ونقابية في البحرين بحاجة اليوم بشكل ملح وعاجل إلى ترك خلافاتهم العبثية ووضع أجندة عمالية تعنى بعالم ما بعد Chat GPT يستجيب إلى هذا المتغيرات.

بهذه الأجندة الموحدة فقط يمكن الذهاب إلى عالم عمل جديد باستعداد لهضم مستقبل سريع التغيّر ويحمل وجوهاً متعددة من الإيجابيات والسلبيات بحسب قدرة المتعاملين معه على الفهم والتكيف.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا