بقلم : John Bellamy Foster
ترجمة: غريب عوض
في تقريرهِ الصادر في 18 أكتوبر 2017 إلى المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، ذكر الرئيس شي جين بينغ أن “الأمة الصينية، التي عانت كثيراً مُنذُ بداية العصر الحديث لفترة طويلة جداً [إشارة إلى حروب الأفيون وقرن الذُل]”، لقد حققت تحولاً هائلاً : فقد نهضت، وأصبحت أحسن حالاً، ونمت قوتها؛ لقد استعدت لإحتضان الآفاق الرائعة للتجديد.” وبالنسبة لهؤلاء الذين على معرفة بتاريخ الجمهورية الشعبية الصينية، كان واضحاً أن الرئيس شي جين بينغ كان يتحدث عن العملية الثورية بكاملها للتجديد الوطني. وصرح الزعيم ماو علانيةً أنهُ، بفضل الثورة الصينية، نهضت الصين. كانت حقبة Deng Xiaoping دينج شياو بينج، التي غالباً ما يُشار إليها بالحقبة الثانية في عملية التجديد الوطني، تدور حول الصين أن تُصبِح أفضل حالاً، من خلال التنمية الإقتصادية السريعة والإندماج في الإقتصاد العالمي الرأسمالي. والحقبة الجديدة، في فترة قيادة الريئس شي جين بينغ، قد تم توجيهها نحو بناء نظام صيني قوي، مكتفي ذاتياً ومُستدام، يهدفُ إلى “بناء مجتمع مُزدهر باعتدال من جميع النواحي “بحلول عام 2021، والمَضي قُدُماً نحو جميع الجهود لبناء دولة إشتراكية حديثة عظيمة بحلول عام 2049.
كل مرحلة من مراحل الثورة الصينية تعني تحولاً كبيراً في العملية الثورية، بحيثُ يُشار أحياناً إلى فترات الزُعماء الصينيين الثلاثة، ماو Mao ودينغ Deng وشي Xi على أنها ثورات الصين الأُولي والثانية والثالثة. إن “التناقض الأساسي” في الحقبة الجديدة (أو الثورة الثالثة)، والذي يُعد التغلب عليه ضرورياً إذا أرادت الصين تحقيق أهدافها، وفقاً للرئيس شي Xi، هو الطبيعة “غير المتوازنة” أو غير المُتكافئة وبالتالي “غير المُلائمة” للتنمية الصينية، وهي من سمات نموذج النمو الرأسمالي. ويتجلى هذا في تعميق عدم المُساواة الطبقية، والإنقسامات بين المناطق الريفية والحضَرية ، وتعزيز التنمية الإقتصادية على حِساب التنمية الثقافية، والعلاقة البشرية غير المُستدامة بالبيئة. ومن ثم، فإن التحول بدافع إشتراكي نحو مزيد من المُساواة الإقتصادية، والإكتفاء الذاتي الوطني، والحضارة البيئية، والإنعاش الريفي والتطور الثقافي، وصياغة نموذج “الدوران المُزدوج” (المُصمم للحد من إعتماد الصين على الأسواق والتكنولوجيا الخارجية) يُنظر إليه على أنهُ أمرٌ حاسم لظهور الصين كـ “مجتمع اشتراكي حديثٌ عظيم.”
وقد استمرت قيادة الحزب الشيوعي الصيني بتحديد وتعريف الصين بأنها “أكبر دولة نامية في العالم،” وإن كانت واحدة في “المرحلة الأولية للإشتراكية”، مما يؤكد على صِلاتها المُباشِرة بالجنوب العالمي الذي تعتبر نفسها جزءاً منه. وتُملي موقفها الدولي الرسمي من خلال “المبادئ الخمسة للتعايش السِلمي”، والمُعرّفة على أنها: (1) الإحترام المُتبادل للسيادة ووحدة الأراضي، (2) عدم الإعتداء المُتبادل، (3) عدم التدخُل المُتبادل في الشؤون الداخلية للآخر، (4) المُساواة والمنفعة المُتبادلة، و(5) التعايش السِلمي. وعلى الرغم من اتهام الصين كقوة عالمية صاعدة بشكل مُتزايد بوضع أجندة جديدة والسعي إلى قلب النظام الدولي القائم على القواعد والأحكام والذي تفرضهُ الدول الرأسمالية الأساسية، فإن هذا، بدلاً من الإنذار بالفوضى أو “القوة تصنع الصواب”، كما أشار وزير الخارجية الأمريكي بلينكن Blinken في الإجتماعات الثُنائية في 18 مارس، اتخذت إلى حد كبير شكل دفاع قوي عن مفهوم المُساواة في السيادة، والذي يتعارض بالضرورة مع هيكل النظام الإمبريالي القائم.
لن يكون السير إلى الأمام في ثورة الصين الثالثة أمراً سهلاً بطبيعة الحال، والشيء الذي قد أشار إليهِ الرئيس شي جين بينغ على أنهُ “تناقض أساسي” في شكل تنمية غير مُتكافئة يتجلى في النِضالات الواسعة التي تجري على جميع المُستويات في المجتمع – وفي علاقات الصين الخارجية.
لن يكون من المبالغة القول إن الثورة الصينية الثالثة إستُقبِلت من قِبل الولايات المتحدة والقوى الرأسمالية الأساسية الأخرى بمزيج من عدم التصديق والصدمة والغضب. غير مُعتادة على التفكير تاريخياً وجدلياً، وبالإعتماد على أُطُر تحليل شكلية فقط، والإيمان بالإنتصار الحتمي للرأسمالية، كانت الأيديولوجية المُهيمنة في الغرب واحدة تماماً من “نهاية التاريخ.” إن الفكرة القائلة بان مشروع الصين السيادي سيؤدي في النهاية إلى تحدٍ حاسم للنظام الرأسمالي والإمبريالي القائم، بدلاً من إستيعابه في الداخل، نادراً ما تم التفكير فيها في واشنطن. كما كتب كورت إم كامبل Kurt M. Campbell، المُساعد السابق لوزير الخارجية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ في إدارة الرئيس براك أوباما، وإيلي راتنر Ely Ratner، مُرشح جو بايدن لمنصب مُساعد وزير الدفاع لشؤون الأمن في المُحيطين الهندي والهادي، كتب في “الحِساب الصيني: كيف تتحدى بكين التوقعات الأمريكية في الشؤون الخارجية في فبراير 2018، كانت فكرة أن “القوة والهيمنة الأمريكية” ستفشل في تشكيل الصين على النحو الذي تُفضِله الولايات المتحدة كانت حتى وقت قريب غريبة تماماً على المؤسسة الأمريكية. والأمر الأكثر إثارة للصدمة هو اكتشاف أن الحقبة الجديدة للصين، المُرتبطة بالرئيس شي جين بينغ Xi، ستبدأ في النظر من نواحٍ كثيرة إلى الصين الثورية للزعيم ماو Mao أكثر من النظر إلى الحقبة الإصلاحية لدينج شياو بينغ.
كان الرد الغاضب من النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة على سعي الصين الحثيث وراء مشروعها السيادي هو إطلاق الحرب الباردة الجديدة التي تركزت على الصين (والتي تضم أيضاً حُلفاؤها مثل روسيا وإيران). يُنظر إلى هذا الآن في الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة على أنهُ حربٌ جديدة للهيمنة على الرغم من عدم وجود أي تحليل تاريخي حقيقي، الأمر الذي يتطلب تقييماً صادقاً للإمبريالية في الماضي والحاضر. فبدلاً من ذلك، استمد الكاتب الأمريكي Graham Allison كِتابهِ “الإتجاه نحو الحرب”، الذي أثر بشكل مُباشر على الرئيس جو بايدن، إطاره التاريخي المُفترض، ليس من مفهوم النظام العالمي الرأسمالي، أو من فهم الفرض الإمبريالي للمُعاهدات غير المُتكافئة على الصين. بل تحول إلى قانون عابر للتاريخ في الصِراع المرتبط بالمنظور “الواقعي” للعلاقات الدولية، المُستمدة من ثيوسيديدس Thucydides، المؤرخ الإغريقي القديم للحرب البيلوبونيسية ، الذي كتب عام 411 قبل الميلاد: “كان صعود أثينا والخوف الذي غرسه هذا في سبارطا هو الذي جعل الحرب أمراً لا مفر منه.”
في المُقابل، من منظور ماركسي، يجب أن يُنظر إلى أي تقييم ذي مغزى للإنتقال المُهيمن في سياق العالم الحديث على أنهُ نتاج للديناميكيات الداخلية للإقتصاد الرأسمالي العالمي، الذي تميّز طوال تاريخه بإمبريالية المركز موجهه نحو الأطراف ومن خلال الحروب الدورية على الهيمنة الإمبريالية: “الإجابة” الوحيدة التي يستطيع النظام الرأسمالي تقديمها لمسألة القوة العالمية.
بعد التأمل في هذا المنطق، تسعى الحرب الباردة الجديدة على الصين التي بدأتها الولايات المتحدة إلى جمع الدول الرأسمالية الإمبريالية الرائدة في تحالُف عالمي يهدف إلى تقييد الصين، جنباً إلى جنب مع حُلفائها ومُحيط النظام الرأسمالي بأكمله، بالنظام الدولي القائم على القانون والأحكام الذي يتحكم فيه الثالوث، مع الحفاظ في نفس الوقت على استمرار الإقتصاد الصيني، مُحركاً النمو الإقتصادي العالمي. من المُسلم بهِ أن الصين أكبر من أن يتم غزوها ببساطة، وهي أكبر من أن يُسمح لها بالفشل، وبالتالي، فإن المطلوب، وفقاً لإجماع واشنطن الحاكم، هو ثورة مُضادة أطلقتها القوى الحاكمة تهدف إلى إعادة فرض مجموعة عالمية جديدة من المُعاهدات غير المُتكافئة على الصين، جنباً إلى جنب مع الجزء الأكبر من العالم النامي. الهدف أقل من أن يحتوي الصين ناهيك أن يُقيدُها. ففي النهاية، يجب دعم هذهِ الإستراتيجية بالقوة العسكرية. كانت هذه وزيرة خارجية Bill Clinton الرئيس الأمريكي السابق، تتحدث في معهد تشاتام هاوس Chatham House في 6 آذار/مايو 2021، من الضروري في هذا السياق للولايات المتحدة أن “تسترجع وسائل الإنتاج” من الصين لضمان بقاء الأخيرة في حالة دولة تابعة دائمة.
إن القول بان هذهِ الظروف تضع سكان العالم في حقبة تتسم بخطر غير مسبوق تقريباً سيكون أمراً بخساً. لا يمكن أن تحدث حرب باردة جديدة بدون سباق تسلح نووي وزيادة خطر نشوب حرب نووية حرارية. وتسعى الصين، التي تُعَد رؤوسها النووية أقل من 200، مُقارنةً بـ 1400 رأس نووي مُنتشر للولايات المتحدة، إلى مُضاعفة عدد الرؤوس الحربية بحلول عام 2030. والولايات المتحدة من جانبها، مُلتزِمة حالياً بإنفاق 500 مليار دولار على قواتها النووية وحدها خلال العقد المُقبل، 50 مليار دولار سنوياً. وهذا يشمل 100 مليار دولار على ما يُسمى بالرادع الإستراتيجي الأرضي، وهو نظام صاروخي نووي أرضي مُصمم ليحل مكان نظام الصواريخ الباليستية القديم Minuteman 3 العابر للقارات. وستكون صواريخ الردع الإستراتيجية الأرضية قادرة على التحليق لمسافة ستة آلاف ميل بوزن ودقة أكبر، ويحمل كل صاروخ راساً حربياً أقوى بعشرين مرة من القنبلة التي أُسقِطت على هيروشيما.
نجا العالم من الحرب الباردة. لا نعرف ما إذا كان سينجو من الحرب الباردة الجديدة . تواجه الإنسانية في القرن الحادي والعشرين الآن، في كل منحى من مناحي وجودها، خياراً لا مفر منه: “الدمار أو الثورة.”