يقول شاعرٌ بحريني في إحدى لقاءاته الصحفيّة، بأنّه من الأوائل “الذين تغنّوا بحياة المدينة، وهذا بخلاف أغلبيّة الشعراء العرب الذين ينتصرون إلى الريف”. وعلى ما في هذا التصريح من تناقضٍ بين قصائده باللهجّة العاميّة المُغرقة في الحنين إلى التراث، وبين بعض قصائده بالفصحى التي تتصالح أكثر مع بيئة المدينة. يخفي هذا التصريحُ نزعةً مكبوتةً لايضاح أنّ انحيازه التامّ إلى المدينة هو نوعٌ من تقدُّميّة مُتقدِمة على التقدُّم!. ليسَ مهمّا في هذا المقال بحثُ هذا الزعم، بقدر ما سنعتبرهُ مدخلًا لبحث العلاقة بين الشعر والمدينة. فهل تكون القصيدة حداثيّة بالتصالحِ مع بيئة المدينة ورفض الريف؟.
وهل كان الشعراء العرب في رفضهم المدينة، بسبب جوهرٍ أصيلٍ في الشعر ذاته؟ أم كان نابعًا من انتقال غالبيتهم من الأرياف وتعقّد حياة المدينة بنظرهم؟. أم إنهُ بحث عن مدينةٍ أخرى، تقعُ في المستقبل؟. كل هذا سنجده في الشعر العربي، على اختلافه بين شاعرٍ وآخر.
في كلِّ فكرٍ هنالكَ ماضٍ فردوسيٍّ، وتاريخٍ من الهزائم، ووعدٍ بخلاصٍ آتٍ، ففي الفكرِ الدينيّ هنالكَ جنّة عدن التي طُردَ منها آدم، وهنالكَ المسيحُ المُخلّص أو المهديُّ المنتظر. وفي الماركسيّة، هنالكَ الماضي المشاعيّ حيثُ كانتْ الثرواتُ لكلّ الناس، وهنالك وعدٌ بالخلاصِ من خلال الثورة. بينما في الشعر، ومهما كان الشاعرُ ملتزمًا بفكرٍ ما. هنالكَ أيضَا ماضٍ فردوسيٍّ مُتخيّل، وسلسلةٌ من الهزائم، ووعدٍ بانتصارٍ مؤجّل. فمن السذاجة الزعمُ بأن أيّ عودةٍ للماضي تعدُّ رجعيّة، فالأمر يعتمد على طريقة تعاطينا مع هذا الماضي من أجل الحاضر. إنّ إحياء الشاعر لهذهِ الأماكن، التي ولّتْ من غير رجعة، هو مساءلةٌ لحاضر المدينة، حيث الشاعر يستحضرُ أطيافُ المغلوبين، الذينَ جرفتهم المدنيّة بشروطها. فكما يقولُ فالتر بنيامين: مع كلّ انتفاضةٍ للمهزومين، ومع كلِّ رعشةٍ من أمل تحضرُ في انتفاضتهم أطيافُ المهزومين في الماضي، لتتشاركَ المنتفضينَ الوعدَ بالنصر.
يكتبُ الشاعرُ البحريني الشهيدُ سعيدُ العويناتي، تـوفي 1976م، في ديوانهِ اليتيم “إليكَ أيها الوطن.. إليكِ أيّتها الحبيبة.
أيها النخلُ الخرافي استفق
وتذكّر زمن الماءِ،
وأسماءَ رجالِ الحقلِ.
ثمَّ يستطردُ في وصفِ زمن طفولته، والهناءَة التي عاش فيها الشاعرُ في كنفِ القريّة، مع الجّدّات والصبايا وعيون الماء، وهي هناءةٌ لا يبدو أنّها تختصّ بزمن طفولته وحسب، وإنما هي ممتدّة في ماضٍ سحيقٍ لإنسانِ هذهِ الأرض. ويغدو تذكيرُ النخلِ بماضيهِ، والمطالبةِ باستفاقته، ليس حنينًا لزمنٍ راحل، وإنما من أجل غايةٍ أخرى.
أيها النخلُ الخرافيُّ استفق
قد غدونا غرباء
وغدا البحرُ شقاء
وغدا العالمُ في أعيننا محض التقاء.
…
غدًا الساعةُ تأتي
حينها تلعنهم كلُّ عصافيرِ البلاد
وطيورِ البحر والأسماكِ وليلِ الذكرياتْ.
فلا أحدَ يستطيعُ أن ينزعَ صفة التقدميّة عن الشاعر”العويناتي”، وهو الذي دفعَ دمه في هذا السبيل، وهو الذي يتمُّ الاستشهادُ ببيته الشعريّ الذي يقول “مُقبلٌ موعدُ المهرجان الذي نكتبُ الآن تاريخَهُ”، للتبيين بأنّ القصيدة هي حُلمٌ نحو المستقبل، ولكننا سنجدُ أن الشاعرَ أيضَا، ومن أجل هذا المهرجانِ القادم، يبتكرُ ماضيًا فردوسيًا، مستلهِمًا إياهُ من زمن طفولتهِ في قريةِ البلادِ القديم. وإن أكثر كلمة ترد في ديوان سعيد العويناتي بعد الوطن، ليست هي المستقبل، وإنما هي (الذاكرة/ التذّكر/ نستذكر/الذكريات) بمختلف تجلياتها!، ورغم الهناءة التي يصوّرها العويناتي في البيئة القديمة قبل اغترابها فإنه لا يغفل عن معاناة الغواصين مثلًا كما ورد في إحدى قصائدة.
وفي قصيدة الشاعر مهدي سلمان، التي ألقيتْ 2018م، في ذكرى استشهاد الشاعر العويناتي، يتجسّد فيها مشروع العويناتي الشعري، في علاقتهِ بالحلمِ والماضي، حيث يقول:
لا أقيسُ الزمانَ،
إنني أتذكّر مستقبلي، مثلما أتخيّل ماضيّ
لاشيء إلا الذي هو يجري هنا الآن.
يحدثُ.. لا شيءَ يمنعه، ويعودُ كنهرٍ إلى الجريان.
لا أقيسُ الزمان، يتكرّر، تفصلُ ما بينه واستعادته خطوتان
هما نصف هذا الطريق الطويل إلى نفسه،
مقبلٌ موعدُ المهرجان.
وهكذا فإن قراءة الشعر، تعطينا الطبقاتِ المتعدّدة في المدينة برؤيةٍ واحدة، بين ماضيها المُتخيّل، وأحلامها المؤودة، وحاضرها الماثل الذي لن نستطيعَ استنطاقهُ دون صورٍ من لا وعي شعرائها. فأن تعرف المدينة أو تفهمها، يستلزمُ الامر جولة بين شعرائها.
يُعْتبر الشاعرُ الحقيقيُّ ـ أيًّا كان انتماؤهُ الفكريّ ـ الأكثر تعبيرًا عن مدينتهِ، لأنه تحديدًا الأكثر تمرّدًا عليها. إنّه مثل الظِّل الذي يحدّد أبعادَ صورةٍ بالأبيض والأسود. فمن غير هذا الظّل لن نستطيع رؤية الشكل.
إذ من غيرِ هذا التمرّد، يدخلُ الشاعرُ في الاعتيادِ، ولا يستطيعُ أن يرى بعينِ الغريب أو عينِ الطّفل. فمن قصيدةٍ للشاعرِ الكرديّ المعروف “شيركو بيكه سي” عن سعيد العويناتي، والتي كتبها بعد أن التقى بأحد البحرينيين، كما هو واضحٌ في سياقِ قصيدته. يطلبُ منه أن يبلغَ العويناتي الرّاحل سلامه، ويستعمل مفردات الطبيعة في بلدهِ ليعرّف بنفسه، ومفرداتِ الطبيعة في البحرين، ليعرّف عن سعيد العويناتي. وهي من ترجمة “آزاد البرزنجي”.
* المحارة
رجاءً، إن سافرت إلى البحرين
من الجبل وصية، ومن الثلج رسالة، ومن غابة البلوط تحية
إلى شاعرٍ هناك ..
ـ من هو؟
ـ سعيد العويناتي
ـ هو في الغياب، ولم يعد لهُ عنوان
ـ كلا ..اسمع
هو ابن البحر.. اسأل أية موجة
لتدلّك على ضفافه الجديدة.
هو أغنية، أسأل الطير
ليدلك على عشهِ الجديد.
هو التمر، اسأل نخلة
لتدلك على سعفهِ الجديد.
ـ وأين مسكنه؟
في محارة أرجوانيّة اللون
هي تماماً، يسار رئة الشعب.
إن أي قصيدةٍ حقيقيّة، هي التي ستنسج ثوبها من الذكرياتِ والآمال. لتنتج في النهاية ما يمكن أن نعدّه حاضر هذهِ المدينة. أمّ الاكتفاء بالحاضر فغنه لا ينتج سوى ما هو تافه وعابر.
ألم يكن الشعراء ممن يعدّون تقدميين، هم الأكثر التصاقًا بالماضي؟ ألم يكن لوركا لسان غرناطة التاريخية في مواجهة الفاشية التي تريد تحنيط ذلك التاريخ؟