“عامي التاسع عشر …”
محمد ديتو
في صباح الأول من يناير 1921، انطلقت باخرة محملة بالبضائع والمسافرين من مرفأ “سيركيجي” باسطنبول باتجاه البحر الأسود شمالاً. بعد إبحارها بقليل، توقفت في جزيرة “برج الفتاة ” جنوب مضيق البوسفور، لتصعد علي متنها فرقة من الجنود البريطانيين لتفتيشها، والبحث عن أي شئ يمكن أن يثير الريبة. لم يجدوا شيئا، وغادروا السفينة في المحطة التالية. تحت أكوام من أكياس القطن المتكدسة علي ظهر السفينة، تخفى شابان حابسين أنفاسهما منتظرين زوال الخطر. بعد مغادرة الجنود، واصلت السفينة رحلتها شمالاً، وخرج الشابان من تحت أكوام القطن متنفسين الصعداء، فقد أفلتا من الحصار المشدد الذي فرضته قوات الاحتلال علي المدينة آنذاك خوفا من تسلل وهروب الشباب إلى الأناضول تلبية لنداء الزعيم مصطفي كمال أتاتورك للالتحاق بحرب التحرير من أجل الاستقلال.
لم يكن الشابان من فقراء اسطنبول، بل كانا من أبناء عوائل ارستقراطية عريقة، فالأول “والا نور الدين” ذو العشرين سنة كان ابناً لحاكم ولاية بيروت العثمانية، أما الثاني والبالغ من العمر تسعة عشر عاما، فينتمي إلى نسب يزخر بالباشوات من جهة والده ووالدته علي حد سواء. سنعرفه بإسم “ناظم حكمت“، وسنعرف بعد عقود لاحقة تفاصيل مغامرتهما بفضل الكتاب الذي كرّسه “والا نور الدين” لصديقه بعنوان ” ناظم حكمت مرّ من هنا”.
كانا صديقي طفولة، وجمعهما شغف جامح بالشعر منذ سنين مراهقتهما المبكرة، كما جمعهما أيضا احساس خانق بإنسداد الآفاق أمام حياتهما المستقبلية، خاصة في تلك السنين المضطربة التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبدء إنهيار الإمبراطورية العثمانية مترامية الأطراف، وتكالب القوى المنتصرة لتقسيم تركيا، وإحتلال اسطنبول من قبل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.
كان ناظم حكمت يعيش أزمةً نفسيةً صعبة، ناجمة عن تفكك أسرته وانفصال والدته عن أبيه، بالإضافة إلى تسريحه من المدرسة البحرية التي كان يدرس بها، بسبب المرض الذي أصاب رئتيه. قيود سلطات الاحتلال علي حرية التعبير والنشر، دفعت بالعشرات من الشعراء والأدباء الي مغادرة اسطنبول، بحثا عن بيئة آمنة لهم، فما تشعر به وتفكر فيه غير مسموح نشره.
كما هي الحال بالنسبة للعديد من أبناء جيله، كانت هناك ثلاث خيارات أمام ناظم: البقاء في اسطنبول والتأقلم والانتظار، المغادرة والهجرة إلى الغرب (أوروبا أو أمريكا)، أو الإلتحاق بصفوف المقاومة ضد الاحتلال التي كان يتزعمها مصطفى كمال (أتاتورك). إختار مع صديقه “والا نور الدين” الخيار الأخير، وخططا لشهور عديدة مسألة خروجهما من اسطنبول والذهاب إلى أنقرة معقل المقاومة، حالمين بأنهما سيساهمان بقلميهما وشعرهما في تلبية نداء الوطن المحتل.
بعد وصولهما إلى بلدة “إيني بولو” المطلة علي ساحل البحر الأسود، انتظر الصديقان فترة إسبوعين لوصول تصاريح الموافقة الأمنية من أنقرة حتي يتمكنا من مواصلة رحلتهما. لعبت الصدفة دوراً في تعرفهما في أحد مقاهي البلدة علي أربعة شبان كانوا ينتظرون أيضاً وصول تصاريحهم، وإتضح أنهم كانوا طلبة يدرسون في برلين وعادوا إلى اسطنبول في أعقاب قمع انتفاضة 1919 العمالية بقيادة “كارل ليبكنخت”، و”روزا لوكسمبورغ”، واللذين اشتهرا باسم “السبارتاكوسيين”. تأثر هؤلاء الطلبة الأتراك الأربعة بشدة بما شاهدوه في برلين إبان الانتفاضة، وتحولوا إلى شيوعيين متحمسين علي إثر تلك التجربة. قضى ناظم حكمت وصديقه والا نور الدين ليال طويلة في حوارات ونقاشات مع هؤلاء الشبان الأربعة، وخاصة قائدهم “صادق آهي” ذي الشال الأحمر، وجذبتهما بشكل خاص أفكار الماركسية والبلاشفة وما سمعاه لأول مرة عن ثورة أكتوبر الإشتراكية في روسيا، وكيف أنه في أعقاب الإمبراطورية القيصرية المستبدة تأسست دولة يحكمها العمال والفلاحون.
بعد وصول الموافقة الأمنية، انطلق الصديقان في رحلتهما سيراً على الأقدام لمدة تسعة أيام وصولاً إلى أنقره. ما شاهده ناظم حكمت خلال هذه الرحلة سيحفر في ذاكرته إلى أخر أيام عمره: البؤس والفقر الشديد في القرى، وسط مشاهد مذهلة للطبيعة الخلابة في الأناضول. هذا التناقض الصارخ بين ما هو متاح من ثروات الطبيعة وجمالها، وتعاسة الحالة البشرية والظلم المحيق بها، سيؤثر عميقاً في وجدان الشاعر الشاب، ويلعب دوراً حاسماً في تشكّل قناعاته الفكرية لاحقاً.
بعد وصولهما إلى أنقره، كانت توقعات الشابين بأنهما سيعملان في إدارة المطبوعات، وسيساهمان في كتابة المقالات الصحفية والأشعار الدعائية والتحريضية، ولكن سرعان ما خابت آمالهما عندما تمت افادتهما بعدم توفر وظائف شاغرة لهما، وتمّ إرسالهما إلى وزارة المعارف التي عرضت عليهما العمل كمعلمين في بلدة “بولو”.
ذهب ناظم وصديقه إلى تلك البلدة الصغيرة الواقعة في منتصف الطريق بين أنقره واسطنبول، وقضيا بضعة شهور هناك كمعلمين، إلا أن الوضع لم يرق لكليهما، فقد كانا يتحرقان حماساً لفعل شيئ ذي معنى وقيمة وسط ما يعيشه وطنهما من مخاض عنيف في حرب الاستقلال. تعرفا في “بولو” علي قاض شاب باسم “ضياء حلمي” متقد الحماس للأفكار الإشتراكية ، وكان دائم الإشادة بثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا التي اعتبرها النسخة الحديثة للثورة الفرنسية الداعية للحرية والمساواة والإخاء. في “بولو” بدأت قناعات ناظم حكمت الفكرية تتجه بوضوح أكثر نحو الماركسية بوصفها “مشروعاً” لبناء مجتمع إنساني خال من الاستغلال، وإطاراً فكرياً لفهم الوجود، الأمر الذي دفعه للتفكير جدياً مع صديقه للسفر لمشاهدة هذا العالم الجديد الذي يتم تشييده في روسيا البلشفية، وهذا ما فعلاه بالضبط بعد بدء العطلة الصيفية، إذ شدّا الرحال وغادرا الى مدينة “باتومي” في جورجيا التي كانت تحت سيطرة البلاشفة. هناك سيلتقيان لاحقاً بشخصية ستلعب دوراً أساسيا في تنظيمهما حزبياً هو “أحمد جواد” ، أديب وشاعر ويتقن عشر لغات، والأهم أنه كان قائد منظمة الحزب الشيوعي التركي في مدينة “باتومي” . في الثاني من ديسمبر 1921 (وفق سجلات الأرشيف الروسي ) تمّ تسجيل ناظم حكمت مع صديقه والا نور الدين كعضوين مرشحين لعضوية الحزب الشيوعي التركي في مدينة باتومي علي ساحل البحر الأسود. (سيتم اعتبارهما عضوين فقط في عام 1924 بعد انتهاء دراستهما في جامعة كادحي الشرق).
منذ انطلاقهما متخفين علي متن باخرة مغادرة اسطنبول في الأول من يناير ذلك العام، حتي بدء حياتهما الجديدة كثوريين محترفين وفق هوية بلشفية واضحة في ديسمبر، إنقضى إثنا عشر شهراً حافلة بالمغامرات التي اختلطت فيها الضرورة بالصدفة، الخطة بالارتجال، واشتبك فيها الخيار السياسي مع الخيار الأخلاقي، ليتمخض عن هذه المرحلة ناظم حكمت كما نعرفه، ويعرفه الملايين في العالم، الشاعر الثابت سياسياٍ وفكرياً، والمتحوّل شعرياً ضمن جدلية الشكل والمضمون.
عامه التاسع عشر
من الصعوبة فهم ناظم حكمت، كإنسان، وكشاعر، إذا لم نفهم مكانة “عامه التاسع عشر “. وربما سيكون من المجدي أن نسافر، ذهنياً، عبر الزمن، إلى مطلع العشرينات من القرن العشرين، لنفهم كيف تشابكت خيوط السياق العالمي، والإقليمي، والمحلي، والشخصي، ونسجت مصير وخيارات ليس ناظم حكمت فقط، بل الألآف من أبناء جيله. فما كانوا يبحثون عنه بالتحديد هو منظور جديد للعالم، يمنحهم التفاؤل والأمل، والوضوح الفكري، بعد انهيار القديم أمام أعينهم.
بعد عشر سنوات من رحلته تلك، وفي عمر الثامنة والعشرين، سيكتب ناظم حكمت قصيدته “عامي التاسع عشر”:
” أنت يا أول أطفالي
أنت أيها المعلم الأول لي، يا أول الرفاق،
أنت ياعامي التاسع عشر
أحترمك كأمي، وسأبقى أحترمك.
أسير على أول الطرق التي ذرعتها، وسأبقى أسير.”
المثير أن قصيدته الشهيرة هذه، كتبها عام 1930 في أعقاب فصله من الحزب، في ملابسات غامضة، وخلافات داخلية تمّ اتهامه علي إثرها من قبل قيادة الحزب آنذاك بأنه يقود نشاطاً انفصالياً. ولكن ما تبينه تلك القصيدة هو أن قناعات ناظم حكمت الأيديولوجية، ستتجاوز أي إطار حزبي ينشط في ظله. ناظم حكمت سيبقى هو نفسه، سواء كان داخل الحزب أو خارجه. عامه التاسع عشر سيمنحه الثبات النفسي، والوضوح الفكري، طيلة حياته.
طيف عامه التاسع عشر سيصبح المعيار الذي يقيس به نفسه كلما تقدّم بالعمر. عندما بلغ الثامنة والأربعين، وفي التاسع من يناير 1950، يكتب رسالة إلى ابنه محمد: “خطّ الشيب شعر رأسي، وجهي كله تجاعيد، كبدي تؤلمني، وألم قلبي مستمر، ولكن في قصائدي فأنا لا زلت ناظم حكمت في عامه التاسع عشر. حتي في اليوم الذي سيدفنوني في الأرض، سيتمكن عامي التاسع عشر من الوقوف شامخاً فوق جثتي والقول: أحسنت أيها العجوز، بقيت شاباً، ولم تكبر أبداً.”
بعد ذلك بعشر سنوات، وفي قصيدة طويلة بعنوان “ذات الشعر الذهبي” في سنة 1961، مهداة إلى زوجته “فيرا”، سيلتقي الشاعر ذو التاسعة والخمسين من العمر بشبيهه ذي التسعة عشرة عاماً في لقاء حميمي، ومشهد تقشعر له الأبدان. سيختار ناظم حكمت ساحة بوشكين في موسكو مكاناً للقاء شبيهه (عامه التاسع عشر). تغيّرت ملامح المكان والأشخاص خلال أربعين سنة، وسيقارن بين حالته الراهنة، بملابسه الدافئة، ووضعه آنذاك بثيابه الرثة:
“هذا هو المكان الذي التقيت فيه بعامي التاسع عشر
لا عنده صورتي
ولا أنا أحتفظ بصوره
ورغم ذلك تعرفنا على بعضنا فوراً
حاول مصافحتي
مددت يدي إليه
ولكن أيادينا لم تتلامس
فأربعين سنة تقف حاجزاً بيننا
***
ليس لديه أي فكرة عما سيحدث له
أنا فقط أعرف ماذا سيحدث
لأنني صدّقت كل ما يؤمن به
وأحببت كل النساء اللواتي سيحبّهن
كتبت كل القصائد التي سيكتبها
مكثت في جميع السجون التي أعتقل فيها
ومررت بكل المدن التي سافر إليها
كل ما سيمرض به، مرضت به،
كل الأحلام التي سيحلم بها، حلمت بها،
وكل ما سيفقده، فقدته…” .
سيطارده طيف “التاسعة عشر” حتي على أرض الواقع الفعلي، ففي مصادفة لا تخلو من مغزى عميق، في عام 1960، وخلال مظاهرة طلابية في ساحة “بايزيد” في اسطنبول، تمّ اطلاق النار علي طالب يبلغ التاسعة عشرة من عمره. على الفور سيكتب ناظم حكمت قصيدته “جثة في ساحة بايزيد”:
“جثة ملقاة في ساحة بايزيد
شاب في التاسعة عشرة من عمره
***
في يدٍ واحدة كتاب
وفي الأخرى حلم انتهى قبل أن يبدأ” .