ورقة غسان كنفاني عن غزّة

0
48

“شاب أبيض البشرة شاحبها … كان يتحرك بصمت .. ويؤدي دوره في الندوات منصتاً، أو مناصرا .. “.  هذا الوصف المقتضب، ربما سيكون أقرب لقطة ممكنة للمشرف الثقافي بالنادي الثقافي القومي في الكويت منتصف الخمسينات: غسان كنفاني.  حصلنا عليها من نص منشور للشاعر والأديب  الفلسطيني خالد أبوخالد  في أرشيف الشارخ. سنقرأ أيضا في نفس الأرشيف، قصة غسان كنفاني بعنوان “شمس جديدة” – تم نشرها لأول مرة في 1957، في  مجلة “الآداب” التي كانت تصدر في بيروت،  ونشرت لاحقا بعنوان ” ورقة من غزّة” في المجموعة القصصية “أرض البرتقال الحزين”. كتبها  غسان ذو العشرون عاما في الكويت عام ١٩٥٦، عندما كان يعمل مدرسا للتربية الفنية في مدرسة خالد بن الوليد الإبتدائية الكائنة بمنطقة المباركية آنذاك.  

 على الأرجح أن غسان عندما كتب هذه القصة القصيرة في ١٩٥٦، كان متأثراً بأحداث ما عرفت بإنتفاضة مارس ١٩٥٥ في غزّة الرافضة لمشروع توطين سكان القطاع في سيناء آنذاك، وأحداث مجزرة “خان يونس” سنة ١٩٥٦ في أعقاب العدوان الثلاثي علي مصر آنذاك. هذا  السياق السياسي العام امتزج بسياق شخصي متعلق بغسان كنفاني ذاته، إذ نعلم من ذكريات شقيقه عدنان (الأخ الأصغر لغسان)، أنه كان يتبادل في تلك الفترة الرسائل مع شقيقه الأكبر غازي الذي كان، يومها، يدرس في كاليفورنيا . سبق سفر غازي جدلاً حادًا داخل العائلة التي انقسم أفرادها بين موافق و معارض لمشروع تلك السفرة، خشية من  أن “تسرق” الغربة غازي وتبعده عن وطنه وأهله. يمكننا التكهن بأن غسان كنفاني كان من فريق المعارضين . ويبدو أنه قرر أن يعلن معارضته في شكلٍ فني يمزج الواقع بالخيال الأدبي، وهكذا ربما ولدت قصة “ورقة من غزّة”.

هل نغادر الوطن أم نبقى؟

وهر القصة يكمن في استعراض المعضلة الأخلاقية: هل نغادر الوطن لنحسن من وضعنا، أم نبقى، بل ونصرّ على البقاء مهما كانت الظروف صعبة؟ هل من الجائز أن نصيغ مصيرنا الفردي بمعزل عن معاناة شعبنا ووطننا؟. قالب القصة القصيرة مسكوب على شكل رسالة يوجهها الكاتب  إلى صديقه مصطفى الذي هاجر إلى الولايات المتحدة  قبل عام من تاريخ الرسالة. بعد إستقرار مصطفى في كاليفورنيا، سيقوم بإنجاز التريتبات اللازمة لإلتحاق الكاتب به حسب اتفاقهما مسبقاً، عندما كانا معاً في غزّة. كاتب الرسالة بدوره سيذهب للعمل في الكويت، وسيعود لزيارة  غزّة في إجازة الصيف. إلا أن تحوّلا جذريا يطرأ على موقفه حال عودته  في زيارة لأهله، ومعايشته لآثار الدمار الذي لحق بغزّة في أعقاب الغارات الإسرائيلية في ذلك العام وسقوط الشهداء والجرحى، ومنهم ناديا إبنة أخيه والتي ترقد في أحد مستشفيات غزّة. سيصدم حين يعلم أن ساقها بترت عندما ألقت بنفسها فوق إخوتها الصغار لتحميهم من القنابل واللهب.” كان يمكن لناديا أن تنجو بنفسها، أن تهرب..أن تنقذ ساقها، لكنها لم تفعل..”

سيفتتح الكاتب  رسالته إلى صديقه بالكلمات التالية: “لا ياصديقي …لقد غيّرت رأيي، فأنا لن أتبعك إالى حيث الخضرة والماء والوجه الحسن” كما كتبت، بل سأبقى هنا، ولن أبرح أبداً”. سيذكره بمشاعرهما معاً كأصدقاء سابقا، وهدف المغادرة الذي كان يلح عليهما: “لماذا لا نترك هذه الغزّة ونهرب..”  وسيوضح أن الخروج من غزّة لم يحقق  استقراراً نفسيّاً له حتى بعد العمل بالكويت: “لا داعي لأن أكرر عليك كيف كانت تجري تفاصيل حياتي هناك، فلقد كنت أكتب لك دائما عن كل شئ، كانت حياتي دبقة، فارغة، كمحارة صغيرة: ضياع في الوحدة الثقيلة، وتنازع بطئ مع مستقبل غامض كأول الليل، وروتين عفن، ونضال مموج مع الزمن، كل شئ كان لزجا حارا، كانت حياتي كلها زلقة، كلها توق الى آخر الشهر!.”

قذفوا غزّتنا بالقنابل

 أثناء عمله بالكويت سترده أخبار غزّة “ضرب اليهود مركز الصبحة، وقذفوا غزّة، غزتنا، بالقنابل، كان يمكن أن يغير لي هذا الحدث شيئاً من الروتين، لكنه لم يكن لي ما آبه له كثيرا: فأنا سأخلف هذه الغزّة ورائي، وسأمضي الى كاليفورنيا أعيش لذاتي التي تعذبت طويلا، إنني أكره غزّة، ومن في غزّة. كل شئ في البلد المقطوع يذكرني بلوحات فاشلة رسمها بالدهان الرمادي إنسان مريض”. في القصة نقرأ كيف شخّص غسان بدقة مشاعر كاتب الرسالة، الذي يحسّ بأنه يؤدي واجبه تجاه أهله بإرسال النقود لهم من الكويت لإعالتهم، ولكنه أيضا في الوقت نفسه يتوق الى التحرر عبر الهجرة إلى “كاليفورنيا الخضراء البعيدة عن رائحة الهزيمة التي تزكم أنفي منذ سبع سنوات… إن الشفقة التي تربطني بأولاد أخي وأمهم وأمي، لاتكفي أبداً لتبرير جريان مأساتي هذا الجريان الشاقولي… لايمكن أن تشدّني إلى تحت… أكثر مما شدّتني…يجب أن أهرب. ” . في الصراع المتوتر بين  الشفقة تجاه المظلومين، والرغبة الجامحة في تحسين وضع الذات، فإن كاتب الرسالة سيميل بشدة نحو الثانية، لولا وجود شعور غامض آخر يعذبه: “أنت تعرف يامصطفى هذه الأحاسيس، لأنك عشتها فعلا: ماهذا الشئ الغامض الذي كان يربطنا إلى غزة فيحدّ من حماسنا إلى الهروب؟”.

إذن سماع خبر قصف غزّة حين كان يعمل في الكويت لم يؤثر في كاتب الرسالة  لطغيان المشاعر أعلاه. ما سيحدث تحوّلاً جذرياً هو عودته إلى غزّة خلال الإجازة الصيفية .”وجدت غزّة كما تعهدها تماماً: إنغلاقا كأنه غلاف داخلي، ملتف على نفسه، لقوقعة صدئة قذفها الموج إلى الشاطئ الرملي اللزج قرب المسلخ، غزّة هذه أضيق من نفس نائم أصابه كابوس مريع، بأزقتها الضيقة، ذات الرائحة الخاصة، رائحة الهزيمة والفقر، وبيوتها ذات المشارف الناتئة… هذه غزّة، لكن ماهي هذه الأمور الغامضة، غير المحددة، التي تجذب الإنسان لأهله، لبيته، لذكرياته، كما تجذب النبعة قطيعاً ضالاً من الوعول، لاأعرف!”.  في هذه الفقرة نلاحظ التجاذب بين شعورين متناقضين، أحدهما يدعو للنفور من غزّة، والثاني جاذب لها. المثير أن ما يجذب هو الغامض بينما ما يُنفر هو الواضح! .

بعد زيارة كاتب الرسالة  لابنة أخيه في المستشفى وإكتشافه لحقيقة ساقها المبتورة بعد إصابتها في إنفجار قنبلة، سيصف شعوره بقوله: “أبداً لن أنسى ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ، لا ولن أنسى الحزن الذي هيكل وجهها واندمج في تقاطيعه الحلوة إلى الأبد… لقد خرجت يومها من المستشفى إلى شوارع غزّة، وأنا أشدّ بإحتقار صارخ على الجنيهين اللذين أحضرتهما معي لأعطيهما لناديا، كانت الشمس الساطعة تملأ  الشوارع بلون الدم… كانت غزّة يامصطفى، جديدة كل الجدة، أبدا لم نرها هكذا أنا وأنت: الحجارة المركومة على أول حي الشجاعية، حيث كنا نسكن، كان لها معنى كأنما وضعت هناك لتشرحه فقط، غزّة هذه، التي عشنا فيها ومع رجالها الطيبين سبع سنوات في النكبة كانت شيئاً جديداً، كانت تلوح لي أنها …أنها بداية فقط، لا أدري لماذا كنت أشعر أنها بداية فقط، كنت أتخيّل الشارع الرئيسي، وأنا أسير فيه عائداً إلى داري، لم يكن إلا بداية بداية صغيرة لشارع طويل طويل يصل إلى صفد، كل شئ كان في غزّة هذه ينتفض حزناً على ساق ناديا المبتورة من أعلى الفخذ، حزنا لا يقف عند حدود البكاء، إنه التحدي، بل وأكثر من ذلك، إنه شئ يشبه إسترداد الساق المبتورة!.”

سنشهد ثلاثة تحوّلات في الشعور تجاه غزّة في القصة: ماقبل السفر إلى الكويت (رغبة عارمة بالهروب)، وخلال عودته لزيارتها (التوتر  بين النفور والانجذاب)، وبعد خروجه من المستشفى (قرار نهائي بالبقاء)  . حقيقة أن ناديا جازفت بحياتها لإنقاذ إخوتها إبان القصف مما كلفها بتر ساقها. هي التي أحدثت هذا التحول الجذري في رؤية الأمور بالنسبة  لكاتب الرسالة، وهو تحوّل ناجم عن تماس شخصي مع المأساة (حالة ناديا الجريحة في المستشفى)، مقابل أن “سماع” الأخبار لم يوثر فيه كثيراً حين كان يعمل بالكويت. 

غسان اليافع في غزّة

قصة “ورقة من غزّة” جوهرة من  جواهر الأدب الفلسطيني المقاوم، وتدهشنا كلما أعدنا قراءتها، بصدقها الفني، وعمق المعالجة لإشكالية مزمنة في كفاح الشعب الفلسطيني، ومما يثير الإعجاب حقا هو يفاعة عمر غسان كنفاني عندما كتبها، ومقدار نضج فهمه للمشاعر الإنسانية في تلك الفترة المبكرة من إبداعه الأدبي.

المثير  أنه بعد عشر سنوات من كتابة غسان لهذه القصة الرائعة، سيزور غزة فعلياً، وسيتذكر الشاعر والأديب الفلسطيني راسم المدهون ذلك بقوله: “كان العام 1966 في ما أذكر. هرعنا يومها إلى قاعة «سينما النصر» في مدينة غزّة لحضور ندوة أدبية عقدت على هامش مؤتمر لاتحاد كتاب فلسطين، كان يعقد في المدينة. كانت المفاجأة أجمل من مؤتمر يعقد وينتخب هيئة مسؤولة للاتحاد وينفضُ كأن شيئاً لم يكن أعلن عريف الندوة دعوته “الكاتب الشاب” غسان كنفاني.

شاب بالغ الوسامة ناحل وفي مقتبل العمر صعد المنبر ليتحدث بلهجة تمزج الحلم بالواقع في مناخٍ كان أقرب للحلم: أخبرنا عن شعر جميل جاءه من “هناك”، من “الجهة الأخرى” التي صارت “غامضة”، ومحجوبة عن أخبار الإذاعات والصحف لأنها صارت جزءاً من الكيان الذي نشأ على أنقاضنا. أخبرنا غسان كنفاني يومها أنه سيقرأ قصائد “وصلته” لعدد من شعراء الجليل، وراح يردّد أسماء محمود درويش، توفيق زياد، سميح القاسم، فوزي الأسمر وغيرهم ثم ليبدأ قرءة نص محمود درويش:

“يحكون في بلادنا/ يحكون في شجن/ عن صاحبي الذي مضى/وعاد في كفن”.