الشائع أن فكرة إحياء يوم العمال العالمي بدأت، أول ما بدأت، في مدينة شيكاغو الأمريكية عام 1886، إحياءً لإضراب عمال المصانع فيها مطالبين بتحسين ظروف عملهم، وقصر ساعات العمل على ثمانٍ في اليوم الواحد، لكن مقالة نادرة لروزا لوكسمبورغ تذهب إلى أنّ استخدام احتفالية العمال وسيلة للحصول على يوم عمل ذي ثماني ساعات وُلدت أولاً في أستراليا، وقبل ذلك بنحو ثلاثة عقود، إذ قرر العمال هناك سنة 1856 تنظيم يوم للتوقف الكامل عن العمل مصحوب باجتماعات وأنشطة.
أيّاً كان الأمر، بات عمال العالم يحيّون هذا اليوم، حيث تخطى الاحتفال به النطاق الوطني الخاص ببلد أو مجموعة بلدان، ليصبح يوماً عالمياً، بل إنه غدا عطلة رسمية في الكثير من بلدان العالم، ومناسبة لإعادة التأكيد على دورالعمّال المحوري في الاقتصاد الوطني لبلدانهم من جهة، وللعمل في سبيل نيل حقوقهم في أجور أفضل وظروف عمل أكثر ملاءمة وضمانات اجتماعية أوسع لهم ولعائلاتهم من جهة أخرى. وتغدو الاحتفالات بهذا اليوم حدثاً مهماً تغطيه شبكات التلفزة والصحافة في العالم.
إحياء عيد العمال في البحرين تقليد راسخ، بدأ منذ الخمسينيات، مع ظهور بواكير الفكر اليساري ونواة الطبقة العاملة الحديثة، وفي العام 1974، وفي دور الانعقاد الأول للمجلس الوطني آنذاك تقدم نُوّاب كتلة الشعب باقتراح بقانون باعتبار الأول من مايو عطلة رسمية في البحرين. حينها لم تكن الحكومة وحدها من وقف ضد الاقتراح، إنما تصدى له، أيضاً، نواب آخرون لم يروا فيه سوى استيراد لفكرة دخيلة علينا من بلدانٍ أخرى، فضلاً عن أن الأول من مايو، كما قالوا، يؤجج صراع الطبقات وتناحرها، فيما المطلوب هو تعاون هذه الطبقات!
علينا، بعد هذا، أن نُلاحظ مدى التطور الذي قطعته طبقتنا العاملة في أن تجعل من هذا اليوم عُطلة رسمية لها، اذا ما تذكرنا المسار الطويل الذي قطعته فكرة الاحتفال بالأول من مايو، منذ أن كانت مجرد احتفالات سرية تُقام على شكل رحلات للمزارع على أيدي نشطاء الحلقات السرية الأولى لجبهة التحرير الوطني في منتصف القرن العشرين، ثم إلى مهرجان خطابي في نادي البحرين بالمحرق عام 1974، وأخيرا إلى مسيرات علنية تطوف شوارع البحرين. وحتى قبل صدور قانون العمل النقابي، حين تقدّم القائد الوطني الكبير الراحل أحمد الذوادي مسيرة عمالية كبيرة نظمّها المنبر التقدمي في الأول من مايو 2002، وشاركت فيها فعاليات عمالية ونقابية متعددة، انتهت بخطابٍ معبّر ألقاه الذوادي. بعد شهور من ذاك أُطلقت حرية العمل النقابي بمرسوم من جلالة الملك، مما مهد الطريق أمام تشكيل النقابات العمالية في مختلف المواقع، كما صدر مرسوم ملكي باعتبار الأول من مايو عطلةً رسميةً في البحرين أسوةً بالبلدان الأخرى وتقديراً لمكانةِ ودور طبقتنا العاملة. وهذه التطورات الإيجابية بالغة الأهمية، وللأسف الشديد فإن المسيرات العمالية العلنية التي اعتدناها بعد التصديق على ميثاق العمل الوطني، جرى منعها في السنوات الاخيرة، مع تراجع مساحة حرية التعبير عن الرأي والتضييق على نشاط مؤسسات المجتمع المدني.
يشهد عالم اليوم تحوّلات كبيرة حدثت في بنية الطبقة العاملة، وأيضاً في مساحة ما نالته من حقوق بفضل كفاحها ومثابرتها. ومن تلك التغيرات البنيوية تقلص حجم العمالة اليدوية، خاصة في البلدان المتقدمة والأكثر نمواً، بالقياس لما كانت عليه في القرنين الماضيين، والحديث يدور اليوم عن المجتمع ما بعد الصناعي، خاصة مع تزايد حصة ما يطلق عليه الاقتصاد الرقمي في بنية الاقتصادات وتحوّل قطاع الخدمات إلى قطاع فاعل ومؤثر وربما أكثر حضوراً من القطاعات الأخرى وفي ظل تزاوج الجوانب الإنتاجية وغير الإنتاجية في هذا القطاع.
بل إن نقاشاً يدور في أوساط الباحثين والناشطين حول ضرورة بلورة تعريف أو مفهوم جديد للطبقة العاملة يأخذ بعين الاعتبار التحوّلات الحاسمة في الاصطفافات الطبقية والاجتماعية في عالم اليوم، لكن قضايا العدالة الاجتماعية والحقوق النقابية والمشاركة الإنتاجية تبقى ثابتة، وحتى وإن تمظهرت في صور أو صيغ جديدة، من أجل أن تكون الحياة على هذا الكوكب أكثر إنسانية وتسامحاً ونبلاً، بديلاً لما لحق به من عنف وعسف وخراب.
وباعثٌ على الألم والأسى أن تمرّ مثل هذه المناسبة التي تحمل، إضافة إلى مضامينها الاجتماعية، طابعاً احتفالياً وتكريمياً، على عالمنا العربي وهو يغرق في حمامات الدم في مواضع عدة، فهاهي غزّة الأبيّة تدّمر ويقتل أهلها من نساء ورجال وأطفال، ويهجرون من بيوتهم ومناطق سكنهم إلى حوّلها القصف الصهيوني الهمجي إلى ركام ورماد، فلم يعد العمال في مصانعهم وورشهم، بل إن الدمار طال، فيما طال، حتى هذه المصانع بفعل الحروب الضروس الجارية في أكثر من بلد عربي، وانهارت الأوضاع المعيشية للملايين من الناس في البلدان المنكوبة، وباتوا يعيشون على الإعانات التي لا تصلهم، هذا إن وصلت، إلا بشقّ الأنفس، وأدى ارتداد الأزمات التي تعصف بالكثير من بلداننا، المبتلاة بالاحتلالات والتدخلات الأجنبية فيها، أو تعيش ظروف الاقتتال والاحتراب الأهلي، إلى انهيار الدولة أو ضعفها وتراخي سيادتها على أراضيها، وتدمير الاقتصاد الوطني، وتحلل الطبقات الوسطى وانهيارها، وإغلاق المصانع والورش ومؤسسات كانت تستوعب الآلاف من العمال الذين وجدوا أنفسهم مشردين عن مدنهم وقراهم، ما يجعل الحديث عن إحياء هذه المناسبة ترفاً أمام أولوية استعادة الأمن والاستقرار .
أنهت القائدة العمالية الأممية، روزا لوكسمبورغ مقالها الذي أشرنا إليه في المقدمة حول الأول من مايو بالقول: “حين يطل فجر أيام أفضل، حين تبلغ الطبقة العاملة العالمية غاياتها، فآنذاك أيضاً، قد يجري الاحتفال بالأول من مايو/أيار على شرف النضال المرير، وعذابات الماضي الكثيرة.”
هذه كانت نبوءة، ولكن نبوءة القلوب العظيمة تتحقق بكل دقة وجلال كما يقول المفكر الفرنسي أناتول فرانس. صحيح أنّ عمال العالم لم يحققوا كلّ ما كانوا يطمحون إليه، حين انبثقت فكرة الاحتفال بيوم للعمال، يؤكدون فيه على حقوقهم ومطالبهم، لكنهم حققوا الكثير من المكتسبات على هذا الطريق، سواء على صعيد التشريعات المنظمة للعلاقة بين العمال وأصحاب العمل، أو على صعيد الأوضاع الفعلية للعمال، مقارنة بما كان عليه الحال قبل قرن وأكثر.