رأس المال الكولونيالي

0
66

عزمتُ في 2018 على إجراء بحث خاص ببعض الأبنية الاجتماعية الكولونيالية كتطبيق لنظرية نمط الإنتاج الكولونيالي كما جاءت عند مهدي عامل. في المخطوطة الأولى قسّمتُ الدراسة إلى قسمين، أولهما غرضه أن يعرض نظرياً مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي، والآخر يعرض التطبيق العملي الملموس للمفهوم التجريدي هذا. لكن حالما بدأتُ بالعمل، وجدتُ نفسي أمام تناقضات حقيقية؛ نظرية وعملية. إنطلاقاً من الفرضية التي طرحها مهدي عامل، القائلة بأولية التبعية البنيوية، ووجود التبعية في العلاقات الإنتاجية الكولونيالية نفسها، وعلى هذا الأساس أتت فرضية: استحالة إعادة الإنتاج المتوسّعة في المجتمعات الكولونيالية، أو التطوّر المُلجم لرأس المال) لا يُمكن القول إن الأبنية الاجتماعية الكولونيالية لم تمر بتطوّرات هائلة في قواها الإنتاجية منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا؛ فدخولها في عملية تعولم رأس المال، ونشوء رأس المال الاحتكاري في بعضها، وتوسّع الصناعة المستمر، ووصول بعضها إلى حالة تمكّنها من تصدير رؤوس الأموال، واستغلال العمالة الرخيصة في بلدان أكثر فقراً منها، هي حقائق يصعب إنكارها أو تجاوزها؛ والأكثر صعوبة هو توفيقها مع الفرضيات التي كنتُ خاضعاً لها كلّياً.

في البدء، ظننتُ أن مثل هذه التناقضات تكشف عن أخطاء محدّدة في النظرية يتوجب إصلاحها، وبالتالي من الضروري تحديث نظرية كُتبت قبل خمسة عقود تقريباً. أدّت الحلول المؤقتة، التي تمكّنتُ من استحضارها عبر هذا التحديث، إلى تناقضات جديدة تتعلّق بالوضع العلمي ككلّ للنظرية هذه المرة؛ ولم أكن بحاجة إلى تفكير أعمق لأدرك أن نظرية نمط الإنتاج الكولونيالي-  مهما أحبّ مهدي عامل أن يكون، واقع الأمر عكس ذلك، ومهما أحببتُ ذلك حينها –  لم تصل إلى المستوى العلمي بعد. عندئذ كان عليّ أن اعتكف واعتزل. 

أعدتُ قراءاتي لعلّي أجدُ شيئاً عند المفكرين الذين مررت بهم سابقاً، أو لعلّي أجدُ شيئاً جديداً عند المفكرين المعاصرين، الذين يتناولون التبعية بأسئلة شبيهة بتلك الأسئلة التي وجدتُ نفسي أطرحها. ومهما ارتبطت تلك الأسئلة بقضايا ملموسة، فإن السؤال الأساسي الذي لم أجد له جواباً عند أيّ من المفكرين، ولهذا السبب بالتحديد أدركت حينها أنه لا توجد نظرية حول التبعية قد ارتقت إلى المستوى العلمي بعد،  هو: ما هي القوانين الداخلية لنمط الإنتاج الكولونيالي بشكل منعزل ومستقل عن النظام الرأسمالي العالمي؟ ليس ثمة شك أنني ورثتُ هذا السؤال من مهدي عامل نفسه،  وعلى حد علمي، هو الوحيد الذي سبقني بطرحه،  فكان عليّ أن اختبر أولاً ما إذا كان هذا المفكر قد قدّم الجواب الكامل؛ إذ بي أجده متنهداً بأسف مثل السيد فرينهوفر: “لا شيء!  ليس ثمة لوحة هنا!”.

يوفّر التاريخ أمثلة عدة لأوهام كتلك وقع فيها الفلاسفة والمفكرون حين خلطوا بين الاشتباه على وجود شيء ما والشيء ذاته، فيسمون الاشتباه اكتشافاً، ويجعلون من المشتبه فيها-  التي لا تأتي إلا كومضات – حقائق بحد ذاتها. وحصل كثيراً أن الإعلانات العظمى لأصحاب الفكر ما هي في حقيقة الأمر إلا تدشينات لشيء ما سيقدم أو سيتشكّل في المستقبل؛ لشيء غير موجود بعد. بكلمات هيغل، كنتُ أمام “شكل من دون أيّ مضمون”، فالمفكر الذي وضع مفاهيم مثل نمط الإنتاج الكولونيالي وقوانين تطوّره، ورأس المال الكولونيالي، وأولية التبعية البنيوية على الطبقية إلخ، من دون أيّ محتوى على الإطلاق؛ حيث الجواب الأوحد لكلّ سؤال ممكن هو أننا أمام نمط إنتاج رأسمالي يستحيل عليه أن يكون رأسمالياً، وقوانين رأسمالية تمنع على هذا النمط أن تكون له قوانين رأسمالية، وإعادة إنتاج تمنع على نفسها أن تكون متوسّعة؛ لكن هذه ليست أجوبةً ولا تنظيراً.

في الجانب الآخر، إذا تمعن القارئ في الكتابات الأخرى – أو على الأقل الأكثر شهرة ورواجاً – مهما بلغت من الجدية والقوة، سيجدها تفترض كمال وإنجازية المفهوم نفسه، أي كتحصيل حاصل لا ينبغي سوى تطبيقه على أمثلة حية. هناك من افترض وجود البنيتين في  علاقة محكومة بالتبادل اللامتكافئ، ومن افترض وجود التراكم – المتداخل أو التراكم – التبعي بين البنيتين، ومن افترض أن إعادة الإنتاج المتوسّعة للبنية “الخاضعة” هي موجهة – خارجياً، ومن افترض أن التناقض يكمن في اللاتكافؤ في تطوّر القوى الإنتاجية العالمية، ومن تصوّر أن العلاقة تكمن في نقل الفائض من بنية إلى أخرى عبر الاستغلال الخارجي المباشر، ومن رأى أن الوجود الاستعماري نفسه قد خلّف مؤسسات مشوهة من شأنها أن “تعوق التطوّر”، وهناك من قال إن الطبقات الحاكمة في تلك الأبنية هي التي تؤبد هذا الإلجام الخارجي، سواء أكان بوساطة العقلية السائدة، أم بالسياسات الاقتصادية، أم التبعية الخارجية، وكذا غيرها من تلك المحاولات التفسيرية التي لا يُمكنني حصرها بالكامل هنا. هكذا، كفلق الصبح جاءني الإدراك أن كُلّ هذه النظريات افترضت نمط الإنتاج الكولونيالي (بمختلف المسميات التي استعملوها)، والقيمة الزائدة الكولونيالية، وإعادة الإنتاج المبسّطة والمتوسّعة الكولونيالية، والميل نحو هبوط معدّل الربح الكولونيالي، والقيمة الزائدة المقارنة والريع الإمبريالي، كتحصيل حاصل، أي كأمر واقع نظرياً ولا يحتاج إلى عمل – المفهوم ولا إلى سيرورة التفهم، وبالتالي لم يُقدّموا لها موقعاً إبستمولوجياً حقيقياً في تاريخ العلوم، وبالأخص في العلم العمراني.

وضعتُ تلك المفاهيم في المختبر النظري، وللقيام بذلك بشكل علمي كنت بحاجة إلى تجريدها من كُلّ المحدّدات الخارجية؛ كان عليّ أن أدرس المجتمعات التي تسمى تبعية أحياناً، أو أطراف وشبه الأطراف في أحيان أخرى، بشكل مجرد عن النظام الرأسمالي العالمي، والإمبريالية، والتاريخ الاستعماري، والطبقات “التبعية”، وكُلّ مظاهر اللاتكافؤ بينها وبين المجتمعات المتروبولية. في هذا الدرب اقتفيتُ خطى سبينوزا. لم يبدأ الفيلسوف العظيم –  كسلفه – بالإنسان صعوداً للإله، بل من الإله نزولاً إلى الإنسان؛ ليست معرفة الله هي نتاج الوعي وإنما الوعي هو نتيجة محايثة في صفات الله نفسها.

وبالمثل، حتى الآن تعامل المفكرون المختصون بالتبعية عبر الانطلاق من النظام الرأسمالي العالمي نزولاً إلى المجتمعات الكولونيالية، فإنهم لكي يفسّروا طبيعة هذه المجتمعات احتاجوا إلى النظام الرأسمالي العالمي (بمختلف المسميات والأشكال)  ليكون موجوداً أولاً ومنه يفهمون، ويستنبطون، آليات هذه المجتمعات، وبهذا المعنى جميعهم أقروا – بوعي أو بدونه –  بأنه لا يُمكن لنا أن نفهم هذه المجتمعات إلا كنتيجة لهذا النظام، وأن التجريد، في التحليل،  من هذا النظام يتركنا أمام تطابق بنيوي بين المجتمعات الكولونيالية والمجتمعات المتروبولية.

بدأتُ بتسديد تلك الديون النظرية التي ورثتها من أسلافي، فاحتفظتُ بعبارة نمط الإنتاج “الكولونيالي” رغم علمي أن هذه العبارة ستترك انطباعاً غريباً على قرائي،  إذ إنهم قد يسيئوا الفهم فيظنون أنني أدرس المجتمعات التي تحررت من الاستعمار، أو تلك المجتمعات المستعمرة فحسب. من المعروف أن مهدي عامل استعمل عبارة “كولونيالي”  ليُشير إلى تلك المجتمعات التي “تغلغل فيها الاستعمار” وفرض عليها التبعية (سواء أكانت مستعمرات أم “شبه مستعمرات”)، وبذلك منعها من التطوّر المستقل نحو الرأسمالية. بينما لم أحصر هذا النمط بتلك المجتمعات فحسب، وإنما بكلّ المجتمعات التبعية حتى بعضها التي كانت استعمارية. احتفظتُ بهذه العبارة لعدة أسباب: الأول، إن الهمّ الذي قاد إلى توليد مفهوم “نمط الإنتاج الكولونيالي” هو صحيح وعلمي، أي دراسة نمط الإنتاج في تلك الأبنية الاجتماعية بشكل خاص. الثاني، تُعطي عبارة “كولونيالي” هنا معنى يتعدى الاستعمار العسكري والسياسي، أو حتى ما يسمى بشبه الاستعمار، لأشير إلى المستعمرات البنيوية نفسها، أو ما كان يُعرف قديماً، بشكل وصفي وغير دقيق، بالمستعمرات الاقتصادية. الثالث، أحد صعوبات العمل العلمي تتجلى في ابتكار مفهومي اصطلاحي يكون بديلاً حقيقياً لعبارة “كولونيالي”، إذ إن عبارات مثل التخوم والأطراف لا تفي بالغرض إطلاقاً. ومن الواضح –  أيضاً – أن عبارة “المستعمرة الاقتصادية” لا تفي بالغرض، رغم أنها تصلح لأسباب وصفية فقط، إذ أنني أشير إلى نمط الإنتاج الكولونيالي إشارة بنيوية كامنة في العلاقات الإنتاجية نفسها.

كان المطلوب، إذن، ثورة سبينوزية – هيغلية في مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي؛ ثورة تجعل من الممكن للمفهوم أن يعمل، ويتبلّور، ويُنجز. دفعني تحليل نمط الإنتاج الكولونيالي، كما لو كان في جزيرة معزولة عن العالم، نحو صعوبات أخرى تتعدى دراسة نمط الإنتاج الكولونيالي، أي تتعدى التحديدات المرتبطة بالعلاقات الإنتاجية والقوى الإنتاجية. لما كان نمط الإنتاج الكولونيالي هو في حقيقة الأمر نمط إنتاج رأسمالي – كولونيالي، تساءلتُ عن الأسباب التي تجعل من الممكن لمثل نمط الإنتاج أن ينقسم نحو فصائل وأجناس مختلفة، ولما وجدتُ بعض المفكرين والمؤرخين في مجال العلم التاريخي يرتابون في إمكانية وجود هذه الفصائل (بشكل يتعدى الاختلافات الملموسة من بنية اجتماعية إلى أخرى، والذي هو طبيعي جداً)  تساءلتُ عن الأسباب الكامنة في التحليل التجريدي لأيّ نمط إنتاجي، التي تجعل ذلك أمراً ممكناً.

هكذا، أدّت دراسة نمط الإنتاج الكولونيالي إلى كشفٍ نوعي في العلم التاريخي، فيه وجدتُ أن الأنماط الإنتاجية لا تتحدّد فقط بأبنيتها الأساسية (العلاقات الإنتاجية والقوى الإنتاجية) وأبنية الممارسة فحسب، وإنما بأبنيتها الاقترانية كذلك. بهذه الطريقة توصلتُ إلى تلك الآليات التي تجعل من الممكن لنمط الإنتاج الرأسمالي (بل أيّ نمط إنتاجي آخر في التاريخ) أن تقترن عناصره بشكلين مختلفين من دون الرجوع إلى المحدّدات الخارجية التي تخالف الطريقة العلمية في التحليل. وحالما تمكّنتُ من تحليل نمط الإنتاج الكولونيالي بشكله التجريدي، توصلتُ إلى قوانينه الموضوعية – أي قوانينه المحركة – التي تتميّز عن تلك القوانين التي تُحرك نمط الإنتاج الرأسمالي المتروبولي.

وهم الماركسية، واقعية علم العمران

          بهذا المعنى فهمتُ أن كُلّ النظريات التي سبقت نظرية نمط الإنتاج الكولونيالي، أو النظرية الكولونيالية، مهما كانت تتّسم بالراديكالية والثورية وتعتمد مباشرة على استيراد مفاهيم العلم المادي التاريخي، لا تزال تمثّل المرحلة الماقبل تاريخية للمعرفة العلمية التي تمثّلها النظرية الكولونيالية. واجه العلم التاريخي، أي الماركسية  (بمعنى اكتشاف ماركس وإنغلز العلمي)، تحدّيات حقيقية امتدت لأكثر من قرن، ولكن فيما تمكّن هذا العلم من قيادة انقطاع إبستمولوجي يفصله كلّياً، أي يؤسسه كعلم، عن الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، والنظريات التاريخية، ونظريات السياسة والدولة، والنظريات الطوباوية للاشتراكية، وبالتالي قدّم الدولة، والاشتراكية، والتاريخ، نحو العلم (بالمعنى الإقليمي أو الجزئي أو الميلي للكلمة، إذ حقّق علمنا العمراني، بعد اكتشاف النظرية الكولونيالية، القطيعة الإبستمولوجية الكونية في هذه النظريات كذلك، ومن دونها ستقبع هذه النظريات في مرحلةٍ غير مكتملة من القطيعة العلمية)، رغم أنها احتاجت إلى تثويرات علمية مستمرة كي تتعمّق،  فإننا لا نجد وصولاً لنظرية التبعية إلى مثل هذا المستوى بعد، إذ إنها – حتى الآن – قابعة في المراحل السابقة للانقطاع الإبستمولوجي؛ مما يعني أن نظرية علم التاريخ قابعة بشكل كبير في المراحل السابقة لهذا الانقطاع. هذا ما يُفسّر نقص النظرية الإمبريالية، رغم أن الكثير من الأدبيات كُتبت في هذا المجال، وذلك لأن تنقصها دائماً النظرية الكولونيالية. فلما كانت نظرية الإمبريالية هي نتيجة طبيعية لفهم خاص لتمرحل نمط الإنتاج المتروبولي، فإن لفهم النظرية التبعية كان من اللازم أن يُفهم نمط الإنتاج الكولونيالي أولاً.

هذا يعني لفهم نظرية التبعية نحتاج أولاً إلى ثورة إبستمولوجية في نمط الإنتاج الكولونيالي من لا شيء. وسيعتقد المرء أن مرحلة ثورة التحرر الوطني كانت ستشكّل الظرف المناسب لهكذا تبلّور لنظرية مثل تلك، إلا أن الواقع أثبت عكس ذلك، وبالتالي أن ما يُسمى عادة “فشل” الماركسية يرجع بشكل كبير إلى هذه الحقيقة، حيث لم تكن ثورة التحرر الوطني كافية لأسباب عدة –  منها عملية وسياسية وآيديولوجية – لإحداث ثورة نظرية مثل هذه؛ إذ كيف يُمكننا أن نتوقع من أصحاب العلم أن يُقارعوا شيئاً لم يكوّنوا مفهوماً علمياً متكاملاً عنه بعد، أي نظرية عامة للإمبريالية أو النظرية العامة لبنية الإمبريالية؟

هكذا، إن كان يبحث البعض عن موضع ”الفشل” المزعوم للماركسية، سيكون اختبار ثورة التحرر الوطني هو المكان الصحيح؛ إذ التاريخ بيّن أن اكتشاف ماركس وإنغلز هو صحيح وعلمي، في حين “الماركسية” لم تكن سوى وهم. إن “الماركسية”، أي القالب المتكامل الجاهز الذي يُقدّم بوصفه منظومة علمية قد سلف لها الإنجاز والاكتمال بشكل كُلّي تحت مسمى “الماركسية”، هي وهم ابتدعته مختلف المذاهب الماركسية، إذ هذا القالب العلمي المكتمل ليس له أيّ وجود (على الأقل، ليس بشكله المتكامل الذي توهموا بوجوده)، وإنما افترضته هذه المذاهب كتحصيل حاصل. هكذا، ابتعدوا عن الاكتشاف والتأسيس العلمي الذي قام به ماركس، وإنغلز، ولينين، وكان بُعدهم هذا هو تحريف وتشويه نظري مارسوه في عجلة وطيش نظري وسياسي. بيّنت هذه الحركة أن هذا الوهم بالتحديد حال دون صيرورة “الماركسية” علماً متكاملاً قائماً بذاته، لا وبل أصبحت اليوم هذه “الماركسية” هي نفسها الشكل العائق، أو العائق الإبستمولوجي، الذي يتناقض مع مضمونها العلمي، أي القشرة المثالية التي ينبغي تحرير لبّها المادي والعلمي والثوري منها؛ هذا اللبّ الذي أدعو إلى الحفاظ عليه وتطويره نحو شكلٍ أرفع، لاختتام وإنجاز هذا العلم كلّياً، باعتباره علم العمران.

إنها ضرورة تاريخية أن يكون تحليل نمط الإنتاج الكولونيالي هو الذي أدّى إلى تثوير كُلّي لعلم التاريخ، وذلك لأن هذا التحليل يستدعي تمفهم بنية اقتران الأنماط الإنتاجية. القضية ليست محاكاة الانقطاع الإبستمولوجي الذي قاداه ماركس وإنغلز، إذ إن ظروف وشروط تدخّلي النظري تختلف كلّياً عنهما. “في مقارنة الأشياء الصغيرة بالعظيمة، كما قال فيرجِل، أنا لم اكتشف علماً جديداً، على العكس من هذين العملاقين، ولكنني في الوقت ذاته لم أقم بمجرد “تعميق” أو “تطوير” علمي لهذا العلم، إذ اتممتهُ واختتمتهُ، وهكذا اكتشفتْ النظرية الكولونيالية قارات جديدة لم تُكتشف فيه بعد. فكان العلم التاريخي، قبل النظرية الكولونيالية، في تصوّر أصحابه، مكوّناً على الأغلب من قارة أو قارتين واقعتين على أرض مسطحة، ولكن أدّت النظرية الكولونيالية إلى تعديل كُلّي لا في مجال نمط الإنتاج الرأسمالي فحسب، بل في مفهوم نمط الإنتاج نفسه، أي كعلم يضع عمران نمط الإنتاج وتاريخه كموضوعه. هكذا افتتحتْ النظرية الكولونيالية قارات جديدة مجهولة ووجدتْ عالم العلم التاريخي أكبر مما كنا نتصوّره؛ والوصول إلى هذه القارات الجديدة تطلّب شكلاً خاصاً من القطيعة الإبستمولوجية تؤدي إلى قطيعة كونية، ولا يُمكن افتراضها كتحصيل حاصل، وإنما يتوجب فرضها وإحداثها، إذ القطيعة التي قاداها ماركس وإنغلز كانت (ولأسباب مفهومة تماماً) قطيعة إقليمية أو جزئية فقط، ولم تكتمل أبداً.

          لأول مرة نجد أن مفهوم العمران قد اكتسب معناه الكامل، حيث إن علم التاريخ هو هو علم العمران، أي لأول مرة نفهم أن العمران هو البنية الاقترانية التي تتضمن أشكالاً متعددة، قد تكون لامتناهية (في حدود أن التاريخ هو لا متناهٍ) لتمفصل العناصر التي تمهد لأشكال مختلفة من الزمانيات، والتزمّنات، والتمكّنات، والتحقّلات. شخصياً لم أقع على كتاب أو كاتب، ولعلّه قصور مني، قد سبر غور العمران بهذا المعنى؛ ولهذا فإن الانقطاع الإبستمولوجي الذي جاءت به نظرية نمط الإنتاج الكولونيالي، أي في حدود أنها أدّت إلى تثوير “الماركسية” كعلم العمران، هو عبارة عن انقطاع كوني أو شامل. الحلقة المفقودة من علم التاريخ الماركسي، تلك الحلقة التي حالت دون اكتماله كعلم متكامل، تكمن في عدم اكتشاف مفهوم الأبنية الاقترانية، وبالتالي حال ذلك دون صيرورة قطيعتها الإبستمولوجية قطيعة كونية. يكشف العمران، إذن، أسلوب وطبيعة بنية المقدرة الإنتاجية التابعة للأنماط الإنتاجية؛ فالعمران هو طوبولوجيا الأنماط الإنتاجية أو بنية البنية. وأخيراً يكون العلم الذي أشرق مع ابن خلدون، وهو أول مَن اكتشفه، قبل أن يقع بين يديّ ماركس وإنغلز اللذين أحدثاه وحقّقاه، يصل إلى ختامه النهائي.