سيتعيّن علينا مناقشة أفكار فرانتس فانن من نواحٍ عدة، وبالتالي علينا أن نحدد مكامن الصواب والخطأ فيها وإلى أيّ مدى يُمكننا التفكير في واقعنا العملي وفقاً لنظريته كما هي مطروحة في كتابه (معذبو الأرض).
من جهةٍ، في أساس الفكر الفانني جوهر ثوري يسعى إلى فهم الواقع الاستعماري، وما- بعد الاستعماري، للأبنية الاجتماعية الكولونيالية (أو تلك التي يسميها: مجتمعات متخلفة أو تابعة). سيكون علينا أن نقرأ، ونفهم، هذا الجوهر الثوري لفكرٍ لم يكتمل في تكوينه النظري، ولا الوصول إلى هدفه النظري كُلّياً. من أفكاره الصحيح التي نصادفها في كتابه (معذبو الأرض) هي الفكرة التي تقول إن ما تسمى بالبورجوازية الوطنية في المجتمعات المتحررة من الاستعمار غير قادرة، بطبيعتها، على قيادة تحررٍ وطني حقيقي بشكلٍ مستقل عن القوى الامبريالية الطاغية، وبالتالي بطلان الفكرة الشائعة أن البورجوازية الوطنية قادرة على قيادة أيّ أمةٍ متحررةٍ من الاستعمار نحو نموٍ مستقلٍ. يعللّ فانن هذه الفكرة بالتشديد على عاملين: الضعف الاقتصادي لدى البورجوازية هذه، وطبيعتها السيكولوجية.
رغم أن الأسس النظرية التي يوفّرها فانن لهذين العاملين لا يكفيان، إلى حد أنهما لا يقومان على أفكارٍ علمية تامة، إلا أن الاستنتاج صحيح في مبدأه وفقاً للنظرية الكولونيالية. كما يطرح فانن، في مواضعٍ عدة، زيف الوحدة الوطنية الأفريقية ما إذا طُرحت من وجهة نظر البورجوازية الأفريقية، إذ سرعان ما تتحوّل الوحدة هذه، بعد التحرر من الاستعمار، إلى تشرذم طائفي، وديني، وعنصري بفعل عدم قدرة البورجوازية على قيادة وحدة وطنية حقيقية.
هكذا، الوحدة الوطنية الحقيقية، حسب رأي فانن، لا تتحقق إلا عبر ثورة اشتراكية توحّد الشعب بشكلٍ فعلي، ويستدل فانن بمثال الجزائر حيث شارك كُلّ الشعب في الإنتاج الوطني والبناء (وهو، فانن، شارك فيه شخصياً). كما أن مكامن صحة فكر فانن تكمن في اعتقاده بأن على النموذج الاشتراكي الذي على أمم أفريقيا أن تتبناه أن يكون خلّاقاً وابتكارياً، بشكلٍ مستقل عما تسمى في العادة” الكتلة الشرقية“ أو ” الكتلة الاشتراكية“، أي (باختصار) بشكلٍ مستقل عن النموذج السوفيتي المزعوم للاشتراكية.
من جهةٍ أخرى، يختزن فكر فانن على عناصرٍ غير علمية تحول دون صيرورة النظرية الكولونيالية نظرية علمية، أي تلعب دور العائق الابستمولوجي للقفزة العلمية هذه. مثلاً، في تشخيص فانن للبورجوازية الوطنية نسمعه يقول إن سيكولوجية البورجوازية هذه هي سيكولوجية تتّسم بالعقدة الدونية إزاء البورجوازية الامبريالية، وهذه السيكولوجية هي بحد ذاتها، بفعل موقعها الاقتصادي غير الإنتاجي، هي التي تدمغ العقلية البورجوازية التي تنعكس على الوضع الاجتماعية العام في المجتمعات المتحررة من الاستعمار. فنجد بورجوازيات هذه المجتمعات لا تدخل إلا في نشاطات وسيطية، وتجارية، وسياحية، وخدماتية عموماً، وذلك تلبية لرغبات البورجوازية الامبريالية. عند هذا الموضع، نجد خطئاً مزدوجاً: أولاً، يخلط فانن بين خطابين علميين: علم العمران (أو العلم العمراني التاريخي، الذي موضوعه هو: عمران الأنماط الإنتاجية) وعلم النفس (موضوعه هو: اللاوعي)، وفوق هذا نجده يقرّ بأسس النظرية السيكولوجية الآدلرية التي تخالف أهم مبادئ علم النفس الفرويدي، وذلك عبر وضع أولية للبيئة المحاطة على الغرائز الجنسية. لعلّ فانن وجد في فكرة مثل هذه شيئاً يلبي محاولته النظرية في فهم سيكولوجية الإنسان المقهور عبر الرجوع إلى بيئته الاجتماعية، ولكن انتهى به الأمر – أي فانن – بهذا الخلط الذي يتجاوز الحدود العلمية.
إن رجوع فانن لعلم النفس الآدلري يُشير إلى محاولة لفهم واقع الإنسان الأسود في تضاده مع البياض في واقعه الاجتماعي، ولهذا سيكون من المناسب أن نطلق على الفكر النفساني الفانني كفينومينولوجيا السواد (وارتباطه بهيغل هو واضح لمن قرأ فانن). هكذا، تتحوّل السيكولوجيا الفردية الآدلرية إلى سيكولوجيا عرقية، ولكننا لا نجد أيّ مكانٍ لليبيدو والغرائز الجنسية.
أما من الناحية الاقتصادية، فمن الواضح أن تشخيصه للبورجوازية الكولونيالية “الوطنية” كبورجوازية لا يُمكن لها أن تدخل في نطاق الإنتاج أبداً يتجاوز منطق توسّع وتطوّر رأس المال الكولونيالي، وبالتالي لا يضع أيّ دورٍ لخصوصية التمرحل في البنية الكولونيالية، التي يُمكن لها أن تنتقل من التبعية في مرحلة البحث عن المواد الخام وتصديرها (أي مرحلة خضوع العمل شكلياً لرأس المال الكولونيالي) إلى التبعية في مرحلة التصنيع التبعي (أي مرحلة خضوع العمل فعلياً لرأس المال الكولونيالي).
هكذا يخلو هذا الفكر بشكلٍ إجمالي من أيّ طابعٍ بنيوي يُمكنه أن يحدد طبيعة البنية الكولونيالية بشكلٍ نظري تجريدي، أي يُشكّل تاريخ التحرر من الاستعمار الحد التاريخي لنظرية فانن؛ فلا نجد أيّ مكانٍ لتنظريات حول الوظيفة الكولونيالية، والقيمة الزائدة الكولونيالية، وإعادة الإنتاج المتوسعة الكولونيالية والتراكم-النسبي، إلخ.