“التوازن المالي” .. ليس ذريعة دائمة

0
20

ثمة أسئلة عديدة باتت تطرح بقوة في الشارع البحريني، خاصة في هذه الفترة التي تلي انتهاء الانتخابات النيابية والبلدية، وبعد أن أدى نواب الشعب قسمهم الدستوري إيذانا بافتتاح دور الإنعقاد الأول من الفصل التشريعي السادس، وهي فترة مليئة بالكثير من التوقعات والتوجسات على حدٍ سواء، فهي في المقام الأول تأتي مباشرة بعد انقشاع مخاطر فترة جائحة كوفيد – 19 وما خلفته من تراجع اقتصادي وانكفاء على اكثر من مستوى، مع توقف شبه تام لقطاعات اقتصادية وتجارية، وانعكاس كل ذلك على واقع الناس المعيشي والحياتي بشكل واضح. 

 أهم تلك الأسئلة التي تتداولها المجالس والمنتديات تتمحور بشكل تلقائي حول مخاوف وتوجسات الناس المشروعة وما ستحمله الأيام والأشهر القادمة اليهم من أخبار يتمنون جميعهم بكل تأكيد ان تكون مفرحة، وحتى القيادة السياسية للبلاد ومعها الحكومة تتمناها أن تكون كذلك، لكن ثمة امور لابد من الحديث حولها على الرغم من أن اقتصادنا الذي بات منتعشاً بحسب الأرقام المعلنة من قبل الحكومة  والبنك الدولي، ومؤسسات تصنيف الإتمان الدولي تؤكد على إمكانية تحقيق معدلات نمو جيدة لاقتصاد البحرين مع نظرة مستقرة تبعث على التفاؤل.

يحمل ذلك الدولة مسؤوليات مضاعفة حول أهمية أن يستشعر الناس تبعات هذا الاستقرار والتفاؤل، خاصة وأن أسعار النفط باتت تنحو باتجاه ايجابي منذ مطلع العام المنقضي 2022 على الأقل حتى الآن، مما يعطي أملاً ومزيداً من التفاؤل للناس نحو ضرورة تجسير الفجوات المعيشية التي خلقتها سنوات من المصاعب المالية التي لسنا هنا في وارد الحديث حولها تفصيلاً، فجوات في الأجور والرواتب والمعاشات التقاعدية، مقارنة بما خلقه تضخم الأسعار والسلع وانعكس بشكل مباشر وملموس على دخل الأفراد والأسر، وأثرّ سلبا في مجمل الدورة الاقتصادية وقدرات المواطنين الشرائية وبالتالي سرعة دوران العجلة الاقتصادية وتراجع الإنفاق الحكومي بالنسبة للكثير من المشاريع الحيوية. 

تلك أمور لا بد من التذكير بها ولو بعجالة، إلا إننا نريد أن نؤكد من خلالها أن تطلعات الشارع البحريني باتت ملحة باتجاه ضرورة سرعة الالتفات للطبقات الفقيرة والمتوسطة أو التي جرفتها الأوضاع الاقتصادية إلى  مستويات مقلقة  ومتدهورة من الفقر والعوز، نعم العوز لأن ذلك ما نلمسه بوضوح ونحن نعايش واقع الناس المعيشي، وهو ما تلمسه الصناديق الخيرية التي باتت عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها تجاه الطبقات الفقيرة المعتمدة على مساعدات اجتماعية أهلية ورسمية، حيث يبلغ حجم الأسر المعتمدة على تلك الدعومات والبرامج أكثر من  17 ألف أسرة بحسب الأرقام الرسمية المعلنة، ونجزم أن النسبة إلى ارتفاع بكل تأكيد، خاصة مع تغوّل البطالة على الأسر وشحّ فرص العمل في السوق البحريني والتي بحسب احصاءات صندوق العمل لازالت قادرة على توليد المزيد من فرص العمل النوعية، لكنها للاسف تذهب في غالبيتها لغير  أبناء الوطن، نظرا لتشوهات مزمنة أضحت تعاني منها سوق العمل البحرينية منذ سنوات دون إيجاد حلول جادة وحقيقية لها. 

وهنا نتوقف لنقول إن المعالجات المطلوبة من قبل الناس في الشارع البحريني باتت في وضع اشبه بالمقارنات بينها وبين ما تنتهجه أسواق العمل في دول الجوار الخليجي، التي استشعرت منذ فترة، حتى قبل الجائحة، ضرورة الالتفات للوضع المعيشي والاجتماعي من جوانبه المتعددة، فسياسات التوظيف يجب سرعة اعادة النظر فيها لتصبح أكثر فاعلية ومصداقية، وسياسات الدعم المقدمة للسلع والخدمات يجب أن يعاد رسمها وهندستها لتصبح عبارة عن رافعة لأوضاع المواطنين المعيشية، خاصة وأن الوفرة المالية النسبية التي تحققها اسعار النفط المرتفعة مرشحة للاستمرار ضمن معدلاتها، في ظل ما يشي به الوضع الإقليمي والعالمي من توترات انعكست ولازالت على ارتفاع أسعار  الطاقة المورد الرئيس لدولنا الخليجية، على الرغم من استمرار غياب سياسات حصيفة ومؤثرة بالفعل لتنويع قاعدة موارد الدولة.


أمام  أوضاع مقلقة كهذه  لا بد من المصارحة بالقول إن على الحكومة ومجلس النواب الاستثمار الجيد للوقت المتاح أمامهما انطلاقاً من برنامج الحكومة المعروض أمام المجلس، لتفعيل سياسات دعم وتوظيف وبرامج ومبادرات اقتصادية ومعيشية من شأنها أن تشيع حالة من الارتياح لدى اوسع الشرائح وتعيد للإنسان البحريني حالة طال انتظارها من التفاؤل والثقة في المستقبل، وليس حصيفاً الاستمرار بالتذرع دائماً بسياسات التوازن المالي إلى ما لا نهاية، فكلنا نعرف أن التوازن المالي بني أساساً على ضرورة اطفاء عجوزات الميزانية وهناك توقعات بالوصول لحالة من التوازن مع نهاية عام 2022، وهذا ما نرجوه.

وفي المقابل  لا يستطيع الناس الانتظار أكثر مما انتظروا ليروا أن رواتبهم التي أكلها التضخم وتوقف زيادات المتقاعدين السنوية، بعد تعديل القانون بطريقة ظالمة طالما رفضناها ودعونا الى  رفضها.  وبالمثل أيضاً فإن اعادة رسم سياسات الدعم بصورة أكثر عدالة، كما جاء في البيانات الرسمية يجب أن لا تعني الانتقاص من مكتسبات المواطنين تحت أي ذريعة، وأعتقد أن أمام حكومتنا مخارج جد مهمة لتنويع قاعدة موارد الدولة، ويأتي على رأسها فرض ضرائب طالما نادينا بها على أرباح الشركات، وقد سبقتنا إلى ذلك  معظم دول الجوار الخليجي، وآخرها كانت دولة الامارات العربية المتحدة التي اقرت ضريبة بمعدل 9% على أرباح الشركات الكبرى، وهي خطوة في الاتجاه الصحيح وستعود على الدولة بالكثير من الموارد، ولن يؤثر ذلك في حال التوافق حوله على تنافسية  البحرين التي نادت بها رؤية 2030, وفي حال اقرار ذلك فإن الدولة يجب أن تكون في غنى عن إرهاق جيوب المواطنين بمزيد من الضرائب والتبعات التي جعلت من حياتهم جحيما لا يطاق.


تلك بعض المؤشرات التي يجب أن تذكر بوضوح في برنامج الحكومة المعروض حاليا أمام مجلس النواب، والذي يرسم لتوجهات الدولة التنموية والاقتصادية للأربع سنوات القادمة، والذي يجب أن يربط مع مشروع  آخر مهم سيصل للبرلمان نهاية شهر مارس القادم كما هو مرجح، وهو مشروع الميزانية، ومن خلال هذين المشروعين نستطيع أن نقرأ بالفعل توجهات الدولة بعيداً عن الأرقام والنسب التي عادة لا تصمد أمام إرهاصات الاوضاع المعيشية والمالية والاقتصادية..إنه التحدي القادم أمامنا جميعاً، مجتمعاً وحكومة وبرلماناً، لنعبره بأمان ودون اية هزات اجتماعية أو تراجعات لا سمح الله، فليس أمامنا إلا خيار النجاح للنهوض مجدداً بعزيمة واصرار وتفاؤل بالمستقبل.