شيء لا يُصدّق بل من الخيال هي تلك الصورة المرسومة في ذاكرتي عن هذا الإنسان الذي افتقدناه قبل شهر، كان بيننا يصول ويجول وفجأة غاب كنجمة هوت، فأقل من أربعة أشهر كانت كافية لأن يُغيبه الموت عنا بعد اكتشافه للمرض الفتاك، لم يمهله لالتقاط أنفاسه بل أجهز عليه دون رحمة فأكل جسده النحيل بتمدده في كل أجزاء جسمه، ولم يكن في وارد حالته تلك البقاء على قيد الحياة أكثر من تلك المدة، فقد عانى كثيراً وذاق ويلات الألم لدرجة صار فيها جسمه لا يقوى على الوقوف، بدا ذابلاً، ملامحه متعبة حتى كاد أن يضمر على سريره، عينان ثقيلتان يفتحهما بصعوبة كبيرة، وحتى الكلام لا يخرج الاّ بصعوبة فيبذل جهداً مضنياً ليتكلّم وكل ما في كلامه يوحي بقلّة الحيلة في مغالبة المرض فقد كان في أقصى النهايات وآخر درجات سلّم الموت.
في تلك الشهور الأربعة ليالٍ مضت مثقلة بالحزن والأسى والتضرع إلى الله، أبقت العائلة في تيه لم تعد قادرة على تحمله، ظلّ أفرادها يرتعشون خوفاً على مصيره، والكل في حالة من الذعر، فبعد كل زيارة وزيارة تأتي الأخبار بما لا نشتهي ونتمنى وتذهب تلك الأمنيات نحو فراغ الخوف والقلق والعجز عن فعل شيء.
الجميع كانوا في حالة صدمة بعد سماعهم لخبر مرضه بالسرطان ولم نكن أبداً نستوعب سرعة انتشاره، هل يُعقل؟. لم نصدق، فحميمية علاقته معنا بحجم الحزن الذي لفّ المكان الذي كنا نراه فيه يومياً بيننا كالطائر المحلقّ في كل بيت من بيوت اخوته وأخواته بالمجمع السكني، فقد كان قريباً من الكل يحمل الطيبة والبساطة والمحبة كلها، وينثرها بين الناس كما كانت علاقته واضحة صريحة نقيّة بسيطة دون تكلف، فقد كانت تلك العلاقة مع الغير بالنسبة له تبدأ بلمسة حبّ لتستمر. إنسان مدهش، كتاب مفتوح بإمكانك قراءته دون عناء، قلب صافً مشعّاً على كلّ القلوب، فهو واحد من الناس القليلة الذين تأنس إليهم وتثق بهم دونما عناء تفكير ليجبرك على احترامه وتقديره.
هو ذاك الإنسان الخلوق، النقي، الخدوم المملوء حيوية ونشاطاً وهمّة، رجل شهم ونبيل، قلب بسعة البحر، صديق للصغير قبل الكبير، صديق الكل دون ضغائن أو أحقاد يتعامل معك بسموّ، ويبث السكينة والراحة في كل من يلتقي بهم ويأنسون به وبخفة دمه. لم تكن مدارات الحياة عادلة معه فقد تركنا وغادر سريعاً، ولم يتمكن من رؤية حفيديه يكبران تحت ناظريه وهو الذي يحب الأطفال، فكم كان فرحاً فرح طفل بهما، يحتفي بوجودهما ويرسم في مخيلته خارطة مستقبلهما حتى إنه كان يود قبل رحيله أن يأتوه بهما لولا صعوبة ذلك من عدم السماح بدخول الأطفال للمستشفى، فكم كان ذلك قاسياً عليه، فرحل وفي قلبه غصة وجرحاً يخطّ القلب، انسحب من هذه الدنيا، منكسراً ومريضاً وفِي قلبه خيبة كبيرة.
في زياراتي القليلة له كنت أراه مُسمّراً في السرير ينام في سكينة طفل بين ذراعي أمّه، هادئاً ووجهه صاف وفي حالة سكون كلّي غير منشغل بأي شيء، فالقلب نظيف والذمة خالية من أي أثقال هو ذا محمود دوماً وأبدًا نظيف السيرة والسريرة. وفي زيارة أخرى رأيت عينيه وقد سالت دمعات متتالية على خدّه، ثم جفت بسرعة تاركة ورائها حرقة قاسية على مصير يعرف نهاياته رغم تشبثه بأي شيىء يمنحه فرصة الإلتصاق بشجرة الحياة، شعرت حينها بأنه يحمل معاناة ثقيلة أنهكته وقصمت ظهره. ما أصعب أن يبكي رجل أمام عينيك وأنت تُدرك أنّك لا تستطيع أن تفعل شيئاً من أجله، شيء صعب أن ترى من تحبّ في حالة كهذه، ولكن هو قانون الدنيا، نأتي ثم نمضي كأنّنا لم نكن، وأن تبقى أعمالنا الصالحة التي نخّلفها للآخرين، فلا سلطان لنا على الموت.
لم أكن قادراً على كتمان حزني على رجل كان بيننا قبل شهور معدودة في كامل قوته وعنفوانه ليصبح في هذه الحالة المزرية، أقرأ في عينيه تساؤلات لم يكن قادراً على قولها أو البوح بها فالمرض قد أضناه وأخذ منه كل مأخذ وأبقاه حبيس تساؤلاته تلك دون إجابات. يا إلهي، كيف يبتذل المرض أجمل الأشياء ويحوّلها إلى لا شيء، وكم أنّ مصائر البشر تشدّ على خيط دقيق ورقيق، ينتهي سريعاً إلى التمزق.
نحتاج أحياناً إلى بعض النسيان لنتمكّن من العيش ومواصلة الحياة، ولكن في حقيقة الأمر نتذكر أكثر من يرحلون، وبالخصوص إذا كانوا من الناس القريبين إليك، تحسّ بخلجات نبض قلوبهم يسكن في أعماق روحك، ومحمود واحد من هؤلاء الذين يصعب نسيانهم، فقد مات تاركاً مكانته ومكانه فارغاً في العائلة. بموته انتابت العائلة موجةُ حزن موجعة، فقد سرق الموت منا إنساناً يطرق أبواب الفرح والمحبة بطلته وخفة روحه، وبرحيله فقدنا إنساناً قريباً إلى القلب، فلك الرحمة ولروحك الخلود يا أبا خالد وللعائلة الصبر على هذا الفراق الصعب.