ما من شعب على وجه الأرض يواجه ما يواجهه الشعب الفلسطيني من توزّع على بقاع مختلفة من أرضه التاريخية، ففضلاً عن أولئك الذين بقوا في الأراضي المحتلة عام 1948، التي عليها تشكّل الكيان الصهيوني بمباركة دولية وتخاذل عربي، وجد بقية الفلسطينيين ممن بقوا على أرض فلسطين أنفسهم موزعين على قطاع غزّة والضفة الغربية، اللذين آلا إلى الاحتلال الاسرائيلي في عدوان 1967، وعليهما تشكّلت فيما بعد السلطة الفلسطينية بعد إبرام اتفاقات أوسلو، وهي اتفاقات لم تنه الإحتلال، إنما استدرجت القيادة الفلسطينية إلى شرك خبيث، ما زالت عاجزة عن الإفلات من شباكه، كما يتبدى ذلك خصوصاً، في اللحظات الصعبة، الحاسمة كما هي حال العدوان الهمجي على غزّة اليوم. إضافة إلى ذلك هناك فلسطينيو الشتات الموزعون على المخيمات في البلدان المجاورة لفلسطين، خاصة الأردن ولبنان وسوريا والأردن، فضلاً عن أراضي الله الواسعة التي استقبلت وتستقبل حالات مختلفة من التيه الفلسطيني الموجع.
ورغم أن المأساة الفلسطينية الممتدة عقوداً طويلة تتوالى فصولاً من الدم والتشرد والوجع، ألا أن ما يطلق عليه، زيفاً، المجتمع الدولي ما زال ينظر للجلاد الصهيوني بصفته ضحية، غير مكترث بعذابات والآم الضحايا الحقيقيين. يافطة “المجتمع الدولي” هي تمويه على الحقيقة الساطعة، من أن إرادة هذا المجتمع مسلوبة ومصادرة من الدول التي صار الكثيرون يجدون حرجاً في تسميتها بتوصيفها الحقيقي: الدول الإمبريالية، التي هندست تسليم فلسطين للعصابات الصهيونية، والتي أمّنت لإسرائيل كل أسباب البقاء، التي لا تملكها في محيط هي دخيلة عليه وعلى تاريخه، وهذا ما نراه اليوم من اندفاع واشنطن في تزويد المعتدي بأحدث الأسلحة واشدّها فتكاً، وإرسال حاملات الطائرات إلى البحر الأبيض المتوسط نصرة له، لأنه عاجز عن الدفاع عن نفسه منفرداً.
أرض غزّة المحروقة بالنار الاسرائيلية، برهنت على أن الجيش الذي يتباهى بأنه لا يقهر وقف متردداً أمام بوابات غزّة وأبنائها البواسل، الذين يخوضون حرباً غير متكافئة، ولكنهم يصرّون على ألا يرفعوا الرايات البيض أبداً، ويصممون على القتال والموت دفاعاً عن أرضهم وقضيتهم العادلة، وفي هذا يكمن الفرق بين أصحاب قضية عادلة وبين عصابات مستوطنين مستجلبة من أقاصي الدنيا لتقيم دولة على أرض ليست لهم.
وليس العدوان الصهيوني الجاري حاليا على غزّة هو الوحيد أو الأول من نوعه على القطاع واهله، ففي العام 2005 انسحب الجيش الإسرائيلي من القطاع، بعد 38 عاما من الاستيلاء عليه من مصر في حرب الأيام الستة في 1967، وأنشأت إسرائيل حينها منطقة عازلة بين القطاع والأراضي التي تسيطر عليها، بعد إخلاء 25 مستوطنة إسرائيلية كانت داخل القطاع، وأبقت على عدد من التجمعات في المنطقة المتاخمة للمنطقة لهذه المنطقة العازلة، تتكوّن من حوالي 50 بلدة معروفة منذ ذلك الحين، هي التي صارت تعرف بغلاف غزّة، وهو الاسم الذي أصبح متداولاً في الأنباء مؤخراً، وكان مسرحاً للعملية الفلسطينية والمواجهات المسلحة مع جيش الاحتلال.
رغم انسحاب إسرائيل العسكري من غزّة، لم يتوقف الاستهداف الصهيوني للقطاع، فبعد أقلّ من عام، ورداً على قيام مقاتلو حماس بأسر مجند إسرائيلي في هجوم على الحدود، ردّت إسرائيل بضربات جوية وتوغّل داخل القطاع، وازدادت حدة المواجهات اللاحقة بعد سيطرة حماس على غزّة في مواجهة مع حركة فتح في العام 2007، وفي ديسمبر/ كانون أول شنّت إسرائيل هجوماً عسكرياً على القطاع استمر 22 يوماً رداً على إطلاق صواريخ على بلدة سديروت بجنوب إسرائيل، وتوالت المواجهات العسكرية في أعوام 2012، 2014، 2018، 2021، 2022، وفي كل هذه المواجهات قدّم الفلسطينيون ضحايا كبيرة، من المدنيين بوجه خاص، نتبجة استهداف القطاع بالطيران والصواريخ، كما استشهد الكثير من مقاتلي حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية، واغتيل بعض قادتها، لكن كلّ ذلك لم يثن الشعب الفلسطيني عن مواصلة كفاحه وبذل التضحيات من أجل انتزاع حقوقه المشروعة، وفي مقدّمتها حقه في إقامة دولته الوطنية المستقلة، رغم الخلل الكبير في ميزان القوى، والدعم غير المحدود الذي تقدّمه الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون لإسرائيل.
غزّة اليوم هي شاهدة وشهيدة في الآن ذاته. شاهدة ليس فقط على همجية العدو الصهيوني التي لم تعد بحاجة إلى “إثباتات” إضافية، فالسجل الدموي الحافل لهذا العدو مليء بالفظاعات، وإنما على هوان العرب وذلّهم وفرقتهم وخذلانهم، وغزّة شاهدة على هشاشة نظرية “الجيش الذي لا يقهر” التي يتباهى بها قادة الكيان المصطنع منذ تاريخ زرعه في المنطقة، فقد فوجئت إسرائيل وحلفاؤها، بل والعالم كله، بالعملية العسكرية الفلسطينية النوعية، حين نجح مقاتلو حركة “حماس” في عبور الحدود بالبر والبحر والجو، وحطّموا الحاجز شديد التطور الذي اقامته إسرائيل للفصل بين الأراضي الواقعة تحت سيطرتها وقطاع غزّة، وأسر ما يزيد عن مئتي رهينة، بينهم الكثير من ضباط جيش العدو وجنوده، وكشف ذلك ليس فقط عن التحضير المحكم للعملية، وإنما أيضاً عن أوجه هشاشة في منظومة الأمن والاستخبارات والدفاع الإسرائيلية، كما برهنت هذه المنظومة على تخبطها مرة أخرى، حين صرّح رئيس وزراء دولة العدو نتنياهو، في إطار إعلانه لحالة الحرب، ولأول مرة منذ خمسين عاماً، في صبيحة اليوم الأول من اقتحام المقاتلين الفلسطينيين لأراضي غلاف غزّة، أنه سيجري القضاء خلال الليل، على كل المقاتلين الذين تسللوا إلى داخل تلك الأراضي، مهدداً بأنه لن يُسمح لأحد من أولئك المقاتلين بالفرار، متعهداً باستعادة ما سيطروا عليه من مواقع وأراض خلال ساعات، ولكن جيش الاحتلال احتاج لأكثر من ثلاثة أيام كي يعلن نجاحه في بلوغ ذلك، بعد مواجهات دامية وشرسة مع المقاتلين الفلسطينيين، مع استمرار توارد الأنباء عن وجود ما يصفه العدو بالخلايا النائمة، ظلّ أفرادها يتصدون لقوّاته في مناطق مختلفة من محيط القطاع، وتوارد أنباء إسرائيلية عن حالات تسلل جديدة لمقاتلي حماس وسواها من الفصائل لأراضي غلاف غزّة، رغم كل الإحكام العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي على الحدود.
من أبلغ ما قيل داخل إسرائيل نفسها حول ذلك، ما نشرته صحيفة “هآرتس” بقلم ألون بينكاس، في مقال بعنوان: “7 أكتوبر 2023: تاريخ سيبقى عاراً على إسرائيل”، اعتبر فيه هجوم حماس “بمثابة كارثة إسرائيلية مروعة، إذ فشلت الدولة بقيادة رئيس الوزراء نتنياهو وجيش الدفاع الإسرائيلي بشكل مذهل في حماية مواطنيها”، مضيفاً أنه “لا يمكنك المبالغة في تقدير حجم وقوة موجات الصدمة المدويّة لهجوم يوم السبت على إسرائيل. هذا هو يوم الغفران عام 1973 مرة أخرى”، ومؤكدا على أنه “سيكون من المستحيل تجنب السؤال الكبير: ماذا حدث لنا، وكيف وقعنا في مثل هذا الفخ القاتل؟”.
وينقل الكاتب والمحلل الأمريكي توماس فريدمان، وفي مقال له في “نيويورك تايمز” عن ناحوم بارنيا، كاتب العمود المخضرم في صحيفة “يديعوت احرانوت”، وصفه للسابع من أكتوبر بأنه “أسوأ يوم أستطيع أن أتذكره من الناحية العسكرية في تاريخ إسرائيل”، مشيراُ إلى أنه “كان هناك إذلال محض للجيش الإسرائيلي: في عام 1973، تعرضنا لهجوم من قبل أكبر جيش عربي، مصر، اما هذه المرة، تمّ غزو إسرائيل في 22 موقعًا خارج قطاع غزة، بما في ذلك مجمعات تصل إلى 15 ميلًا داخل إسرائيل، من قبل قوة عسكرية صغيرة لم تغزو إسرائيل فحسب، فتغلبت على قوات الحدود الإسرائيلية؛ بل أعادت رهائن إسرائيليين إلى غزّة عبر نفس الحدود – وهي الحدود التي أنفقت فيها إسرائيل ما يقرب من مليار دولار لإقامة جدار كان من المفترض أن يكون غير قابل للاختراق فعليًاً، وهذه ضربة صادمة لقدرات الردع الإسرائيلية”.
وغزّة شاهدة، مرة أخرى، على زيف دعاوى الغرب، أمريكا في المقدّمة ثم أوروبا التابعة لها، والمؤتمرة بأمرها، حول حقوق الإنسان، فها هي إزدواجية المعايير، وسياسة الكيل بمكيالين، والنظر بعين واحدة، تتجسد في أفظع الصور، في موقف الغرب الداعم بشكل مطلق، وبدون تحفظات، للجرائم الوحشية التي يرتكبها الكيان ضد السكّان المدنيين، حيث يزداد عدد القتلى كل يوم بالمئات والجرحى بالآلاف، فيما جرى ويجري تدمير المناطق السكنية بالكامل، على رأس ساكنيها من الأبرياء، وغالبيتهم من النساء والأطفال والشيوخ، فالغرب الذي أقام الدنيا وأقعدها ضد روسيا على خلفية حرب أوكرانيا متهماً إياها باٌقذع التهم، يبارك للعدو الصهيوني وحشيته وبشاعة اجرامه ضد الأبرياء.
غزّة الشاهدة هي في الوقت ذاته شهيدة تُقتل في صمت، فيما العالم لا يكتفي بالتفرج على المجازر وإنما مباركة حرب نتنياهو عليها، لكن غزّة الشاهدة والشهيدة، تقاوم باسم فلسطين والعرب جميعاً، حتى لو اختار بعض هؤلاء العرب أن يقبلوا بالتفرج على ما يجري صامتين خيارا لهم، فالشعب الفلسطيني، في غزّة خاصة، الذي يواجه القتل اليومي لآلة العدوان الصهيونية، هو استثناء اللحظة الراهنة في الصمود والمواجهة، حتى لا نصبح جميعا عبيداً للمشروع الصهيوني الذي يزداد تغوّلاً وجنوناً مع صعود الاتجاهات النازية المتطرفة داخل الكيان، وأصحابه يرون كيف تتوالى قطاف مشروع الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد، فما تشنّه قوات الاحتلال في قطاع غزّة هو حرب إبادة بالمعنى الحرفي للكلمة، في إطار مخطط شرير يندرج ضمن أهداف الاحتلال القائمة على إخلاء الأراضي الفلسطينية المحتلة من أصحابها الاصليين، وإجبارهم على تركها بتخييرهم بين الموت تحت القصف الإسرائيلي أو النزوح خارج أراضيهم، وهي أهداف مبنيّة، في الجزء المتصل منها بغزّة، بتوطين أهلها في سيناء، وهو أمر لا ينال فقط من جوهر الحقّ الفلسطيني، بهدف محوه كلية، وإنما يطال أيضاً الأمن القومي المصري، وبالتالي الأمن القومي العربي برمته.