بقلب شاعرٍ جسور.. خرج ابن غزة “رفعت العرعير” من حي “الشجاعية” لينال ماجستير الأدب الإنجليزي من “لندن” والدكتوراة من “ماليزيا”، ليعود وفي العطاء لتدريس الأدب في الجامعة الإسلامية بغزة.
يقول رفيقه المُقرب “عاصم النبيه”: “كان يمشي أكثر من 25 ألف خطوة في اليوم، ليجمع قصص الغزاويين ويسرد معاناتهم”. كان رفعت يجول بين الخلق لينصت بقلبه لأهل سجن محاصر أبى أهله أن يرصخوا للخنوع، ليحوّل النفحة البشرية الحية من رقمٍ عابر إلى حكاية خالدة وإنْ نالت منها شظية أو رصاصة، الحكايات لا تموت، ولا تخضع تحت قوانين الاحتلال وحواجزه الصارمة.
بعد استشهاد “رفعت” توالت الشهادات، عشرات الأشخاص صرحوا بمساعدة ابن حي الشجاعية لهم، لتحويل قصصهم وأفكارهم وأحلامهم وهواجسهم إلى حكايات. كمرشد ومربي لأجيال كاملة، كأكاديمي يحمل بين نبضاته درس واحد: “كيف يمكن أن ينجو المرء من الغرق بطوق حكاية”؟
في قصيدته الأخيرة، يلوح “رفعت” للجميع بالوصية ذاتها:
إذا كان لا بدّ أن أموت
فلا بد أن تعيش أنت
لتروي حكايتي
لتبيع أشيائي
وتشتري قطعة قماش
وخيوطاً
(فلتكن بيضاء وبذيلٍ طويل)
كي يُبصر طفلٌ في مكان ما من غزّة
وهو يحدّق في السماء
منتظراً أباه الذي رحل فجأة
دون أن يودّع أحداً
ولا حتى لحمه
أو ذاته
يبصر الطائرة الورقية
طائرتي الورقية التي صنعتَها أنت
تحلّق في الأعالي
ويظنّ للحظة أن هناك ملاكاً
يعيد الحب
إذا كان لا بد أن أموت
فليأتِ موتي بالأمل
فليصبح حكاية”..
يستعيد “رفعت” روحه بوصايا الحكايات، يؤسس حملة “نحن لسنا أرقاماً” مُتنبئًا بمصيره، ليلقن الجميع درساً في كيفية تكفين إنسان في حكاية تحفظ إيمانه، بلاغة استشعار الجمال والسر الإلهي من رقم جاف في إحصائية عابرة مضرجة بالدم.
كان موت “رفعت” وتأبينه بنسق إلكتروني، جنازة عارمة سار فيها الآلاف بحكاياتهم، إذ أن قصيدته تُرجمت لعدة لغات خلال ساعات، وشاركها شُعراء من جميع أرجاء العالم.
في قصيدته يُقايض “رفعت” ثمين أشيائه ومُمتلكاته وكل حصاد العمر -الذي يُدرك أن الصاروخ قادم لتدميره- لتحويله لركام، يرجو أحباؤه أن يشتروا بذلك طائرة ورقية بيضاء، إذا أبصرها طفلًا من غزة، خالها ملاكًا قادماً لإنقاذه بالحبّ.
يبتكر “رفعت” من حكايته صورة مجاز مُطمئن لطفلٍ يبكي تحت القصف، لا يلحظه العالم والقادة والدول، وتتجاهل نشرات الأخبار نوبات نشيجه ورجفة أطرافه، لكن الشعر ينتبه له ويحفظه.