في رواية يوسف زيدان الشهيرة “عزازيل” الحائزة على عدة جوائز عالمية، برز اسم هيباتيا كعالمة رياضيات وفيلسوفة وفلكية مصرية وكواحدة من أبرز النساء في تاريخ الفلسفة والعلوم ومن أوائل النساء اللواتي برزن في تلك التخصصات. وإسم هيباتيا في اليونانية يعني السامية أو الأعلى مقاماً وهو مصداق لمعنى الاسم، وهو اسم على مسمى أي أن اسمها ملائم جداً لما تحمله صاحبته من صفات سامية، وقد ارتبط اسمها بالبحث العلمي والنزاهة الفكرية، كما تعدّ رمزاً للعلم والفكر الحر والشجاعة، وقد ألهمت الكثير من العلماء والفلاسفة على مر العصور، ومازالت تذكر باعتبارها أول عالمة رياضيات في التاريخ، وأول من برزت في الفلسفة والفلك بشكل واضح في عالم كان يسيطر عليه الرجال.
ولدت في الإسكندرية وعاشت في الفترة (415-370) ولعب والدها دوراً كبيراً في تعليمها وتوجيهها. انتمت للمدرسة الأفلاطونية الجديدة، لكنّها طوّرت مفاهيمها إلى مجالات أخرى أكثر عمقاً وشمولاً، حيث طوّرت الإسطرلاب، وهو جهاز يستخدم لرصد النجوم والكواكب، كما ساهمت في تطوير طرق لحل المعادلات واستخدمت طرقاً جديدة في الهندسة والمجالات الرياضية الأخرى واستكملت أعمال إقليدس وأبولونيوس.
كانت مدّرسة شهيرة تجمع الطلاب من جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية لتدريسهم فلسفة افلاطون وأرسطو، بالإضافة لعلم الفلك والرياضيات، وكانت تدعو إلى استخدام العقل والتفكير النقدي، وسعت إلى نشر المعرفة والتنوير، ووصفها يوسف زيدان “بأنها ابنة العلاّمة ثيون، الأستاذ الفيثاغورثي. هي امرأة مشهورة، جميلة وذكية”، كانت تلقي محاضراتها بالمسرح الذي الواقع في قلب مدينة الإسكندرية أيام الآحاد، وقد تخصصت في علم الرياضيات والفلسفة والفلك ووصفت بأستاذة الزمان، أما ابوها فقد كان يُلقي دروسه في المعبد الكبير السيرابيون عند الحي المصري جنوبي المدينة.
يصف زيدان المكان الذي تلقي فيه محاضراتها بأنه “قاعة كبيرة كائنةُ في الجهة الغربية من المسرح وليست جزءاً منه، وإنما تحوطهما حديقة واحدة. جمهور المحاضرة كبير وفيه نساء، عندما ترتقي المنصة تقف كالحلم أمام الجمهور المتشوق وكله آذان صاغية لسماع محاضرتها. “هيباتيا امرأة وقور وجميلة، بل هي جميلة جداً. أو لعلها أجمل امرأة في الكون. كان عُمرها في حدود الأربعين، وكان أنفها جميلاً جداً وفمها، وصوتها، وشعرها، وعيناها .. كل ما فيها، كان أبهى من كل ما فيها. ولما تكلمت زاد بهاؤها ألقاً”.
اشتغلت بالعلم منذ الصغر على يد أبيها وقد ساعدته وهي بعد مراهقة في شروحه التي دوّنها على أعمال كلوديوس بطليموس صاحب كتاب الجغرافيا، والكتاب الكبير في الفلك للمجسطي كما يذكر لنا ذلك يوسف زيدان في روايته الجميلة تلك. كانت تشرح دروسها بلغة يونانية ٍ راقيةٍ، وتقرر بأن “الحقائق التي نصل إليها بالمنطق وبالرياضيات، إن لم نستشعرها بأرواحنا فسوف تظلُّ حقائق باردة، أو نظلُّ نحن قاصرين عن إدراك روعة إدراكنا لها”. وفي معرض استعراضه لقوّة شخصية هيباتيا يقول “كأنها كائن سماوي هبط إلى الأرض من الخيال الإلهي ليبشّر الناس بخبر ربانيّ رحيم “ليشبهها بيسوع المسيح”، جامعة بين الرقّة والجلال .. في عينيها زرقة خفيفة ورمادية، وفيها شفافية، في جبهتها اتساع ونور سماوي، وفي ثوبها الهفهاف ووقفتها، وقار يماثل ما يحف بالآلهة من بهاء”.
كم هي جميلة ودقيقة عبارات زيدان في توصيفه لهذه العالمة التي ظُلمت من قبل متطرفي الديانة المسيحية، قُتلت بوحشية على يد غوغاء من المتعصبين الدينيين في الإسكندرية وعلى رأسهم بطرس القارئ بعد أن أخرج من تحت ردائه الكنسي سكيناً طويلاً صدئاً، امتدت نحوها “يده الناهشةُ وأيد أُخرى، ناهشةُ أيضاً صارت كأنها ترتقي نحو السحاب فوق أذرعهم المشرعة، وبدأ الرعب في وضح النهار”. سُحبت من شعرها وهي عارية في وسط الشارع وتمّ سحلها، قشّروا بالأصداف جلدها عن لحمها وألقوها فوق كومةٍ كبيرة من الخشب، وبعدما صارت جثة هامدة .. ثم أشعلوا النار لتموت ميتةً مأساوية.
كانت علاقتها مع الحاكم الروماني للإسكندرية، أوريستيس وموقفها من الأسقف كيرلس الأول محوراً للصراع. كما أن نفوذها الفكري والسياسي جعلها هدفاً لسلطات الكنيسة وتسبب في مقتلها. وما حدث لهذه العالمة الجليلة أستاذة الزمان، النقية، القديسة والتي هي واحدة من أبرز الشخصيات العلمية والفلسفية في التاريخ القديم والتي هي أيضاً رمز للمعرفة والتنوير في القرن الرابع الميلادي من بشاعة قتلها يفوق التصور والخيال ويهز الضمير الإنساني، فكانت وفاتها نهاية للعصر الكلاسيكي وبداية للعصور الوسطى المظلمة. وعلى الرغم من مرور مئات السنين على وفاتها لا تزال هيباتيا رمزاً للعقلانية والعلم في مواجهة الجهل والتعصب الديني، فقد اتهموها بممارسة السحر، والوثنية والإلحاد والتسبب في اضطرابات دينية.
شخصية هيباتيا ألهمت العديد من الكتّاب والمؤرخين والفنانين عبر العصور، وتمثل قصتها تذكيراً بأهمية العلم في مواجهة الخرافات والجهل، والتحذير من مخاطر التعصب، ولذا بقت رمزاً خالداً للمرأة التي استطاعت أن تتحدى القيود الاجتماعية في عصرها وتترك أثرا لا يُمحى في تاريخ العلم والفكر الإنساني وأصبحت أيقونة في الدفاع عن العلم في مواجهة الديني والسياسي.
ولنا في التاريخ اللاحق لمقتل هيباتيا أمثلة أبشع، فهناك العديد من العلماء والشعراء الذين انتهت حياتهم بطرق بشعة عبر التاريخ ومن أبرزهم الحلاج، الشاعر الصوفي والفيلسوف الذي أعدم في بغداد بسبب آرائه التي اعتبرت زندقة وكفر حيث تعرض للتعذيب قبل أن يُصلب وتقطع أطرافه، وكذا شهاب الدين السهروردي، الفيلسوف والشاعر، وقد كان من المتصوفة ومن فقهاء عصره في الدين والفلسفة والمنطق والحكمة، قُتل بأمر من السلطات في حلب بعد اتهامه بالزندقة بسبب أفكاره الفلسفية والدينية.
وكذا ابن المقفع، الكاتب والأديب الفارسي صاحب كتاب كليلة ودمنة، والذي عذب بطريقة بشعة حيث ألقي في النار حياً وغيرهم الكثير. هؤلاء وغيرهم يظهرون أن الفكر والإبداع والآراء المخالفة قد تثير العداء عندما تعتقد السلطات بأنها تتعارض مع الأعراف والآراء الدينية والسياسية السائدة في المجتمع.