نزل الثلج على جبل قاسيون منذ نوفمبر/ تشرين الثاني، فأخرجت دمشق مدافئها وبسطها وشالاتها. تَلفحُ وجهي نسمات باردة وانا اهبط من سلم الطائرة أمعن النظر في لافتة كبيرة على مبنى المطار تقول: “دمشق عرين الأسد ترحب بكم”.
ألقاه في بيته، قبو عبارة عن ممر تصطف غرفة الثلاث يسار باب مدخل البيت يقابلها حمام ومطبخ. بقايا بيت دمشقي عتيق راحت كل معالمه ولم يتبق منه سوى نافورة مثمنة في حوش صغير مهمل له باب من المطبخ. اشعر بالبشر في ملامحه وبحرارة بادية في سلامه وعناقه. سأعرف السبب بعد يومين: لقد حضر شخص من الفريج.. حضر شخص من حالة أبو ماهر وعندما تحضر الحالة في هذا البيت الدمشقي، تحضر الروح والقلب.
برد دمشق ينخر العظم ويتسلل من مسام اغطية الصوف، فقمت بتسريع قطرات المازوت في مدفأة الصوبيا طمعاً في مزيد من الدفء، فما كان منه الا ان استيقظ قبيل منتصف الليل بعد ان تحولت الغرفة الى تنور وانا مستغرق في نوم عميق. أعاد ضبط الصوبيا وهو يعلمني درس الدفء في برد الشام: “لا تستعجل الدفء، القطرات الصغيرة تبقي النار مشتعلة طيلة الليل فيشيع الدفء بالتدريج”.
صباح اليوم التالي وفيما بدا لي انه عقوبة من نوع ما، أوقظني في السادسة صباحاً وهو يقول: “قم نروح سوق الهال نشتري سمك.. خاطري في روبيان في قاعته”. ما ان خطونا خارج البيت، كنت اظن ان سوق الهال قريب لأنه لم يستوقف سيارة اجرة ولم نركب حافلة، ولم أكن اعلم اننا سنقطع نصف دمشق للوصول مشياً الى السوق. لكن المشي معه كان متعة لا توصف، وعلى نحو ما ستبقى دمشق محفورة في ذاكرتي بديسمبر البارد ذاك الذي قضيته فيها برفقة محمد عبد الجليل المرباطي (أبو أنس) الذي رحل عنا امس الجمعة 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
دمشق التي افاقت بدأت تزدحم واخذت رائحة المازوت تطغى على اريج الياسمين المنبعث من حدائق البيوت الدمشقية وأبو أنس يشرح لي عن مناطق نمر بها او مبانٍ او ساحات ويقطع حديثه ليسألني عن أناس من أهل الفريج. طفنا بأحياء ومناطق وركبنا حافلة وعاودنا المشي من جديد. وصلنا السوق وقبل ان ندخله، دلفنا الى مطعم صغير بالجوار. طلب إفطاراً، فجاءت اطباق الحمص والفول والبيض وصحن خيار وطماطم ونعناع وكأسي شاي. اشترى الروبيان وقطعنا نصف دمشق من جديد عائدين للبيت.
ستتكرر مشاوير السوق والطبخات المطيبة بمزاج عالٍ والغداء العامر دوما بالأصدقاء فيما سيلي من الأيام مع أبو أنس وسيتكرر التطواف في دمشق. قال مرة: “دمشق مدينة صغيرة عموماً والتجول فيها مشياً متعة”. كانت متعة مضاعفة ان استمع اليه وهو يشرح ويسأل ويحكي قصصا قديمة لبعض اشقياء الفريج ورجاله أو طرائف مجانينه التي لا تحصى. كان يحكي ويصمت فيما عقلي يستعيد فصلاً من تاريخ دمشق ان استوقفني مشهد لساحة فأتخيلها ساحة لمعركة من معارك لا تحصى شهدتها المدينة على مر تاريخها. كنت اردد في نفسي احياناً: لابد ان فرقة خيالة من جيش صلاح الدين او الظاهر بيبرس قد مرت من هنا. وان لاحت امام ناظري سفوح من قاسيون، اطيل النظر فيها ويمعن ذهني في استدعاء التاريخ وتتداعى الصور في مخيلتي ولا يقطعها سوى سؤال من أبو انس كأن يقول: “شخبار الكحلاوي؟”. لحظتئذ تنطلق مني ضحكة هستيرية اكاد لا اقوى على كتمها لأن المفارقة شديدة التناقض. فالكحلاوي هذا رحمه الله من مشاهير ظرفاء حالة أبو ماهر (بالمعنى الأوسع لكلمة الظرفاء) وحين يباغتك سؤال أبو أنس عنه فيما انت مستغرق في خيالك عن صلاح الدين والظاهر بيبرس ويوسف العظمة وميسلون، لن تجد مناصاً من ضحك هستيري ستجاهد لكبحه واستعادة وقارك في شارع دمشقي مظلل بالأشجار.
فيما سيلي من الأيام، سيسألني عن كل شخص وكل بيت وكل زقاق في حالة بو ماهر، عن قلعتها عن دكاكينها وسواحلها. سيحكي لي قصصاً وحكايات وطرائف لا تنتهي، اكان في طوافنا في شوارع واحياء دمشق او في ذلك القبو القابع بضع درجات نزولاً من بقايا بيت دمشقي عتيق. فيما نحن نطهو ما تشتهي أنفسنا من اكلات بحرينية في شتاء دمشق وبردها القارس. وسيتجادل أيضا في نقاش بحريني نموذجي مما نسميه “معاياه” معي او مع غيري على أي شيء: نقاش حول كتاب او واقعة تاريخية او حول تاريخ افتتاح أول دكان شاورما في المحرق او أول صندوق بريد وضع في حالة بو ماهر، لكن لا تفكر للحظة ان تكسب المعاياه مع أبو انس.
لن تكتفي منه بالحكايات والطرائف والقصص الطافحة بالحنين لحالة بو ماهر، بل ستتعلم الكثير، عن التاريخ والنقابات وتقلبات الحياة والسياسة، ستتلى عليك القصص والاخبار ولك العبرة إن كنت مصغياً بمحبة.
لطالما اصغيت له بمحبة في غمرة الضحك وفي حمأة الجد.. رجلٌ من المكان الذي ولدت وعشت فيه، من “الحالة العظمى” كما يحلو لبعضنا ان يقول.. رجل كان يعتصر ذاكرتي وهو يمطرني في شتاء دمشق وثلجها بأسئلة لا تنتهي عن كل شارع وزقاق في حالة بوماهر، وكل رجل وكل حجر، عن كبار قومها وفقرائها، عن ظرفائها، عن بحرها وسواحلها ونبع الماء البارد في قلعتها. اليوم الجمعة 15 نوفمبر 2024 ودعته بنفس تلك المحبة مشفوعة بضحكة مستعادة من طرفة قيلت قبل اكثر من 40 عاماً. لروحك الباقية فينا كل المحبة يا أبو أنس.