تقرير ديوان الرقابة

0
13

حين تصبح التجاوزات والمخالفات مجرد ملاحظات

خليل يوسف

كل التجاوزات والمخالفات وصور التسيب وهدر المال العام فى واقعنا الراهن لم تخرج عن السيطرة، ومن يجد أنها فى حالة تمدد واستشراء عليه ان يراجع حساباته، وان يعيد النظر فى قناعاته، وقبل كل شيئ عليه ان يأخذ ان الأمور بحسن نية !

كأن هذا ما يُراد أن نخلص اليه، ونقتنع به أمام هذا الإصرار على تسمية الأمور بغير مسمياتها، لنستعيض بالشكل عن المضمون، وبالقول عن الفعل، بهذا المنطق يُراد لنا أن ننظر إلى المخالفات والتجاوزات وكل أشكال الانحرافات وسوء الإدارة وهدر المال العام من زاوية من يرصدها ويوثقها باعتبارها “ملاحظات”. مجرد  “ملاحظات”، وأن علينا أن نقتنع بأنها ستكون تحت النظر والمتابعة وإصلاح المعوّج منها، والمفارقة حين نجد أن ذات الجهة التى ارتكبت المخالفات أو “الملاحظات” هى المعنية بتصحيح ما ارتكبته، حتى وإن تجاوز ذلك ما يعتبر خطوطاً حمراء، ومن دون إشارة إلى أي مساءلة أدفينة كانت ام سافرة، وكأن كلمات مثل محاسبة، تقصير، مسؤولية، استقالة، إقالة، وشفافية قد حذفت من قاموسنا، ولا أسئلة ولا من يسألون، ولا من يتساءلون ..!

لذا ليس غريباً ان تتراكم “الملاحظات” دون أي حلول حاسمة توقف تكرار ها وتضع حداً نهائيًا لها، ولم نجد من لا يشعر بالحرج من تكرار نفس الملاحظات فى أكثر من تقرير رقابي، والمعضلة أنه لا الجهة المعنية، ولا الجهاز الرقابي، ولا أي مسؤول ذى صلة يظهر للرأي العام ليحيطه علماً بمسار أي متابعات أو معالجات أو تصويبات للملاحظات، إن اتفقنا على تسميتها كذلك، ما يثير أسئلة وتساؤلات لايستهان بها تضاف إلى القائمة الطويلة التى تضم كمٍ من علامات الاستفهام والتعجب معظمها يمكن ادراجها تحت عنوان “قيمة المساءلة والمحاسبة الغائبة والمغيبة “.

من تابع الردود على ما كشف عنه ديوان الرقابة المالية والادارية فى تقريره السنوى الحادي والعشرين عن السنة المنتهية “2023- 2024 “، يرى أن التجاوزات والمخالفات وصور الهدر فى المال العام الوارد ذكرها فى التقرير والتى من المؤكد انها لم تولد من العدم هى مجرد ملاحظات، تقدم لنا وبوضوح لا لبس فيه بتلك الصفة، حتى وان كان فيها ما هو ملتهب ومثير، او معبر عن شطط ومخالفات صارخة، هى أولاً وأخيراً” ملاحظات ” كما هو الحال فى مسارات العمل وهى ستخضع للمتابعة والمراجعة والتقييم والتقويم والتصويب والإصلاح، وهذا رد غريب وغير مقنع، يكفى القول انه يثير حفيظتنا لأنه يستخف بالعقول خاصة حين نجد ذات “الملاحظات” تتكرر فى كل تقرير، ويظل نفس المسؤلين اصحاب السوابق أبطال تلك الملاحظات فى مواقعهم، ودون ان يعلن عن اتخاذ اجراء، أو تعديل، أو تغيير، أو مساءلة ..!

لنتجاوز ذلك، لا تجاوزاً للملاحظات – لا سمح الله – ربما لأن هذه الملاحظات من كثرتها أصعب من تناولها والاستفاضة فيها كما ينبغي، وربما لأن الكثير من الملاحظات تربك المنطق، أو تنطق اكثر مما تصمت، أي انها واضحة وإن كان بشكل متفاوت الدرجات، وربما لأن الكثير من الردود على هذه الملاحظات قد تشعرنا بأنها مبهمة أو مراوغة بشكل يزدري بذكاء من يتابعها أو يقرأها، ردود تؤدى إلى “اللاشي” .

نقول ذلك بالرغم من تصريح رئيس لجنة الشؤون المالية والاقتصادية بمجلس النواب احمد السلوم، وهى اللجنة المعنية بدراسة ما جاء فى التقرير وفرز الملاحظات والمخالفات ورفع التوصيات إلى مجلس النواب، فما قاله لا يفي الصورة لتكون كاملة ومتكاملة، أو يجعلها واضحة او مقنعة كما يجب، بل إن ما قاله يكون أطيب وقعاً، وأكثر صدقية لو وجدنا بوادر جدية فى التعامل مع التقرير، جدية تكفى لفتح الطرقات المسدودة، لا سد الطرقات المفتوحة ..!

نقول ذلك بثقة خاصة إذا نظرنا إلى التركة الآيلة إلينا من الماضي من مراوحات وتراجعات وتنازلات وتصريحات واستعراضات شهدناها على الساحة البرلمانية على مدى السنوات الماضية حين تم تناول تقارير سابقة لديوان الرقابة، وإن ننسى، فلا ننسى كيف كان تعامل النواب مع تلك التقارير، يكفي القول إنه مخيب للآمال بامتياز، رغم أننا كنا نطمح أن يكون أداء النواب فى تعاملهم مع التقارير الرقابية، ودورهم فى الرقابة والمساءلة فى مستوى القمة، لا فى مستوى المستنقع!

النائب السلوم قال: “هناك تحولاً كبيراً فى نوعية الملاحظات والتوصيات التى خرج بها التقرير، وإننا لم نعد نقرأ فى تقارير ديوان الرقابة ملاحظات تتعلق بمخالفات كبيرة تقع بسبب غياب الأنظمة والقرارات التنظيمية، أو تجاوزات مباشرة وخطيرة تتعلق بهدر المال العام بسبب الإهمال أو التواطؤ”، ويضيف: إان اغلب الملاحظات انصبّت على تطوير أداء الجهات الحكومية”، ويقول أن حوالى 86% من الملاحظات تمّ تنفيذها من الجهات المعنية وأن التركيز على النسبة المتبقية وهى 14% فقط، ولا ينسى النائب أن يطمئننا بقوله بأنه ستتم دراسة جميع الملاحظات دراسة احترافية تهدف إلى تقديم توصيات فعّالة لمجلس النواب تسهم فى سد الثغرات التى تسهم فى ارتكاب المخالفات والمساس بالمال العام وتساعد الجهات الحكومية فى انتهاج أفضل الممارسات. (“الأيام” – 6 ديسمبر 2024).

تذكروا جيداً الكلام الذى صرح به رئيس اللجنة البرلمانية المعنية بالنظر فى تقرير الرقابة، فهو يؤكد، وقبل أن يعرض التقرير ويطرح للتداول والمناقشة سواء فى إطار تلك اللجنة، أو تحت قبة البرلمان بوجود تحوّل نوعي كبير فى فحواه، فى نوعية الملاحظات والتوصيات التى خرج بها، وظهر مبشراً الجميع بأن التعامل مع التقرير سيتم بجدية وباحترافية فعلية، وإزاء ذلك نقول إن الأيام المقبلة كفيلة بإثبات صدقية ذلك الكلام، وما إذا كانت هذه الاحترافية حقيقية أم لا، وما إذا كان هناك تحولاً سيجعلنا ننفاءل خيراً بما سيخرج به النواب من نتائج على صعيد الواقع الملموس، ولذلك نتمنى، وليس بمقدورنا إلا أن نتمنى رؤية تغيير يلبى الطموح والتطلعات ذات الصلة بتفعيل النواب لدورهم المنشود فى الرقابة والمساءلة .

نتمى أن نشهد ذلك على أرض الواقع مع التقرير الجديد بشكل يتجاوز صور التعامل الضعيف، الباهت، والفاقد لقوة الدفع اللازمة على النحو الذى شهدناه فى التعامل مع التقارير الرقابية السابقة. والذاكرة لازالت تحتفظ بردود أفعال معظم النواب طيلة سنوات مضت والتى بقيت فى حدود التصريحات الإعلامية والتهديد بمساءلات واستجوابات واجراءات حازمة، ونذكر أن هناك من النواب من ذهب إلى القول على وقع تقرير رقابي سابق بأنهم لن يستريح لهم بال، ولن يغمض لهم جفن إلا بعد اتخاذ اللازم بحق الذين خالفوا وتجاوزوا وقصّروا، وكأننا أمام حرب دونكيشوتية، والنتيجة لا شيئ له قيمة واعتبار على طريق تفعيل الدور المطلوب للنواب فى الرقابة والمساءلة والمحاسبة ليبقى الحال على ماهو عليه، أليس هذا ما كان يحدث طيلة السنوات الماضية، ذلك وجدناه حين كان النهج الاستعراضي سائداً، والغريب حقاً أنه حتى هذا النهج لم يعد يطفو على السطح، توارى واختفى وكأننا أمام سياسة جديدة فى التعامل مع تقارير ديوان الرقابة بجعلها تمر علينا مرور الكرام بشكل يولد الانطباع بأن حتى حدود الممكن لدينا فى كل شيئ فى تراجع دائم.

نعود إلى “الملاحظات” الواردة فى تقرير الرقابة الجديد، ولأنها كثيرة ومثيرة للدهشة وباعثة على اسئلة فرضت نفسها ليس فقط حولها، بل إضافة إلى ذلك حول بعض الردود الرسمية عليها والتى نسمح لأنفسنا القول إنها تبريرية ورتيبة المبنى، ولا تزيل ما التبس إن لم تجعل الأمر أكثر التباساً وغموضاً، لذلك نكتفي بالتوقف تحديداً امام ما يتصل بسوق العمل، والعمالة الوطنية، وبشعار البحرينى الخيار الأول الذى يجرى الترويج له باعتباره من أهداف رؤية البحرين 2030، دون أن يعنى ذلك التقليل من أهمية الملفات الأخرى التى تناولها التقرير، وفى الشأن المعني يقول التقرير:

  • العمالة الأجنبية تستحوذ على 90% من الوظائف الجديدة فى القطاع الخاص!
  • نسبة العمالة الوطنية فى القطاع الخاص بقيت ما بين 16%و 19% خلال السنوات (2019 حتى سبتمبر 2023 ) .
  • ارتفاع تكلفة توظيف العامل البحرينى احد أبرز التحديات التى تواجه الكوادر الوطنية فى القطاع الخاص ..!
  • رسوم استقدام العمالة الوافدة لجميع مستويات الوظائف لا يساعد على توظيف البحرينيين ولا يجعلهم الخيار الأفضل فى سوق العمل .
  • الاستمرار فى توظيف الأجانب بدلاً من البحرينيين مقابل سداد رسوم العامل الموازى البالغة 500 دينار لكل تصريح، مما ساهم فى عدم التزام 48% من مؤسسات القطاع الخاص بنسب البحرنة ..!
  • منح تراخيص جديدة لمزاولة المهن الصحية لغير البحرينيين فى بعض المهن التى تم تقنين التوظيف فيها على الكوادر الوطنية مخالفة لمقتضيات المادة 14 من المؤسسات الصحية الخاصة وهو امر لم يساعد على خلق فرص عمل للبحرينيين خاصة فى ظل وجود العديد من العاطلين على تلك الوظائف ..!
  • من تشوهات سوق العمل أن هناك عدداً من مزاولي المهن الصحية من غير المرخصين، أو انتهت تراخيصهم منذ فترات طويلة، أو انتقلت إلى مزاولة عمل آخر من دون اخطار.

تلك عينة لما ورد فى التقرير، وإذا كانت الردود الرسمية قد أفادت بأن هناك مراجعة لنسب البحرنة فى مختلف القطاعات والأنشطة ضمن مراجعة أشمل لسياسات سوق العمل والآليات المطبقة بشكل دوري ومستمر لتعزيز أفضلية البحريني بالتوظيف، وأن هيئة تنظيم سوق العمل ستعزز جهودها فى هذا الصدد فى المرحلة القادمة، وانها تعكف على دراسة جميع السياسات والأنظمة المعمول بها فى سوق العمل بشكل مستمر، خصوصاً السياسات التى من شأنها توظيف وتطوير الكوادر الوطنية!

بالرغم من تلك الإشارات يظل من المؤكد أن هذا الملف كان ولازال يراوح فى مكانه دون تقدم حقيقي جاد وملموس بالرغم من كل العناوين والشعارات والأرقام المشكوك فى دقتها وصحتها والتى تكشف لنا عن واقع أعوج مقابل اجراءات وسياسات تجعلنا وكأننا نتبنى ما هو اكثر اعوجاجاً، ويتعاظم هذا الحال المزري وتتسع تداعياته بوجود مستفيدين من هذا الوضع، استثمروا وتاجروا و استنفعوا  فى ما يديم هذا الوضع خدمة لمصالحهم الخاصة جداً دون وقفة حازمة تكشف المستور وما وراء الأكمة، وتنهى هذا الوضع الذى لا أب له يسأم او يرحم، هذا وضع بات معروفاً، ويكفى ما نشرته الصحف فى الآونة الأخيرة عن قضايا متاجرة فى التأشيرات، وفى سجلات تجارية مؤجرة من الباطن، وغير ذلك من التفاصيل المعروفة والتى لا يحسب لها حساب.

نعود إلى تقرير ديوان الرقابة، والسؤال الذى يفرض نفسه، متى تستثمر تقارير ديوان الرقابة فى تحريك وجدان المعنيين بالأمر من مسؤولين وجهات ومرجعيات ونواب وغيرهم بشكل يجعلهم يقفون وقفة نوعية طال انتظارها بعيداً عن كل الوقفات المعهودة ذات الطابع الكاريكاتوري، وقفة تجعلهم ينتقلون من خانة المراوحة، وحالة النفخ المعتادة فى قربة مقطوعة والانتقال إلى تعامل حقيقى وجاد وفاعل وشفاف يشفى الغليل ويبعدنا من ان نكون مصدومين مرتين فى آن واحد، فى الفعل وفى ردة الفعل ..؟!

لا بأس من السؤال بصيغة اخرى، أليست تقارير ديوان الرقابة المالية والادارية تخرج من مؤسسة وطنية رسمية رصينة وموثوقة تأسست بمرسوم ملكي، ولديها الكوادر والكفاءات المهنية العالية والإمكانيات التى تجعلها تقوم بواجبها، وأن مهامها محددة وواضحة بعيدة عن مظان التشكيك أو التصيد فى الماء العكر، مؤسسة تتولى مهمة الرقابة على أموال الدولة وسلامة ومشروعية استخدامها وحسن ادارتها وإنفاقها، فلم إذن هذا الإصرار على أن يتم التعامل مع تقارير هذه المؤسسة باستهانة فاقعة شاخصة أمام الأعين الى حد أننا نكاد نقتنع، او اقتنعنا وانتهينا ان هناك من يريد لهذه التقارير ان تكون حدثاً موسمياً لا يقدم ولا يؤخر، ولا يعدّل ولا يغيّر، وكأننا فى مباراة الفرص الضائعة التى لا نحرز فيها اي ميدالية .. !

ندرك جيداً بانه لو حدث ولو جزء يسير مما يرصده ويوثقه ديوان الرقابة من تجاوزات ومخالفات فى بلدان تعرف قيمة المساءلة وتلتزم بها لوجدنا أصداء وتداعيات فى كل الأوساط ومنابر الرأي العام لايخرج منها المسؤولين المعنيين الكبار قبل الصغار. ما يحدث لدينا الان ينبغى ألا يستمر خاصة فى ظل الظروف والأوضاع المالية الراهنة، وفى ظل برنامج يستهدف التوازن المالي قيل بأنه “سيشكل خريطة طريق ستقود المالية العامة إلى تحقيق التعادل بين المصروفات والإيرادات، ولا أحسب أننا الآن فى حاجة للإفاضة فى هذا الشأن لأنه كلام رددناه وردده غيرنا اكثر من مرة ولا داعى لأن نعيده فى كل مناسبة ..!

صدور عشرات التقارير لديوان الرقابة المالية والإدارية لن يجدى نفعاً إذا استمر النهج الذى عهدناه منذ صدور اول تقرير، وهو نهج يجعل عملية إصدار هذه التقارير وردود الفعل حيالها عملاً روتينياً موسمياً واستعراضياً لا يغيّر من واقع الحال شيئاً. هنا بيت الداء ولب المعضلة، مع ملاحظة أن ما يتناوله ديوان الرقابة فى تقاريره هو فقط غيض من فيض لما يزخر فيه واقع مثقل بالعلل، والمخالفات فهل علينا أن نقبل بالمقسوم والتسليم والاكتفاء بالردود التوضيحية التى تولد لدينا الدهشة والكثير من الأسئلة والتساؤلات التى لا أجوبة عليها..!

والخلاصة، لاشئ يتغير، لا أحد يُحاسب، أو يخضع للمساءلة، لا احد يستقيل او يُقال، ودائرة التجاوزات تتسع و تتكرر، ومعها تتكرر الوعود، ويتكرر الكلام الجميل والمبهر، وتتكرر النيات الخفية والمبيتة وتوابعها، وكأن هناك إمعان على المثابرة في الخطأ، وكل ما علينا هو أن نقبل بالمقسوم، وان نعتبر المخالفات والتجاوزات “ملاحظات”.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا