يزدحم هذا الجزء الأخير من رواية (أولاد الغيتو) وهو الأخير بالأحداث المتلاحقة، حيث ينتقل الراوي من حكاية لأخرى، وتظلّ القضية الفلسطينية هاجسه رغم تلك الحكايات العديدة مما يخلق مستويات متعددة للسرد، فيواصل استكشاف تداعيات النكبة وتأثيرها على الأفراد والمجتمع الفلسطيني من خلال شخصية البطل آدم دنون. “نكبتنا لم تبلغ ذروتها المأساويّة بعد، فهؤلاء الإسرائيليون المصابون بلوثة أرض الميعاد لن يرتووا من دمنا، ولن يتوقّفوا عند أي حدّ “، فكانت مذبحة دير ياسين شاهداً على ذلك عندما شقوا بطون النساء الحوامل وأخرجوا الأجنة.
“في رام الله ألوف مؤلفة، حوالي خمسين ألف رجل وامرأة وطفل يمشون على ظلالهم، فشمس الغروب رسمت ظلالنا على المدى الترابي المتعرج بالمنحدرات والتلال” تائهين في صحراء الظمأ. وغزّة شاهدة على ذلك، فقبل غزة لم يتوقف الصهاينة عند حدّ، فقوات الهاغاناه قاموا بطرد البدو في منطقة بئر السبع إلى خارج حدود الدولة، في قرية الجاعونة: “جلبوا باصات وطردوا الناس عبر الركل والشتائم والإهانات والوعيد” وسكنوا بيوتهم المغتصبة.
في جنين، المخيم صار قبراً لعشرات الضحايا بعد الاجتياح الإسرائيلي في سنة 2002، وارتكبوا مذبحة في دهمش حيث التصقت أشلاء الضحايا بحيطان جامع دهمش. وهم يقومون بهذه المجازر يشعرون بنشوة الدم “إنّ على اليهودي الجديد أن يٓقتل لا أن يُقتل، وأن يذلّ لا أن يُذل”.
طردوا جميع أهل قرية يبنه فرحلوا إلى غزّة وأصبح الجنود يتجوّلون وسط خرائب القرية، “راحت يبنة وراح الزيتون والقلمون والعنب، كل إشي ضاع. اختي فاطمة صارت برام الله، وأخي عبد الكريم صار بحلب، وابني الوحيد استشهد باللدّ”. حكاية الإجرام التي قام بها عساكر الهاغاناه واحدة، “صنعوا حبكة واحدة كرروها في جميع القرى التي طردوا سكانها ودمروها”.
ولم يسلم الفلاحون الفلسطينون من العسف والحرمان من محصولاتهم الزراعية، “منعتهم من قطف العكُّوب والزعتر البرّي”، كما قام الصهاينة أيضاً بالاستيلاء على المؤونة في البيوت: “الطحين والزيت والزيتون، وسرقوا أثاث البيوت، حتى التخوت والفرشات”، “روت لي أنّ أميّ شاهدت جنوداً إسرائيلين يبوّلون في صهاريج الماء”.
في دولة الاحتلال الصهيوني عاش كلّ الفلسطينين في غيتوات بعد أن استبدلوا التاريخ بالأسطورة، فحولوا المستحيل إلى ممكن بعد طرد الفلسطينين من أرضهم ووضعوا الباقين في الغيتو. فلسطين بلاد اختفت من الخريطة، شعب فقد أرضه وتحولوا إلى أقلّيةٍ مضطهدة في الكيان الإسرائيلي، على تلك الأرض التي صارت وطناً لليهود بعد أن تحوّل “معظم الفلسطينين إلى لاجئين يسكنون الخيام التي كانت ملعباً للريح والمطر”.
إلياس خوري في هذه الرواية أخدنا إلى مدن وقرى وطرقات فلسطين، حكايات المخيّمات، شعر وشعراء فلسطين، أدب وأدباء العرب ومفكريهم منذ الجاهلية إلى المُحدثين، امرئ القيس، أبو العلاء المعري، أبو تمام، أبي فراس الحمدانيّ، أبو الطيب المتنبّي، قيس بن الملوح، وضاح اليمن، جميل بن معمّر، عمرو بن كلثوم، الحسين بن منصور الحلاّج، عبد الله بن عمرو العٓرجي، الأعشى، جرير، الفرزدق، أبو نواس، الأخطل، ديك الجنّ الحمصيّ، حسان بن ثابت الأنصاري، سركون بولس، راشد حسين، محمود درويش، إميل حبيبي، توفيق زياد، إدوارد سعيد، غسان كنفاني، سميح القاسم، إميل توما، أمين نخلة، إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، عبد الكريم الكرمي، إيليّا أبو ماضي، بدر شاكر السيّاب، بشارة الخوري.
هؤلاء كلهم كانوا حاضرين حضوراً ضمنياً ومرجعياً في الرواية، يستشهد الكاتب بأشعارهم. يظهر محمود درويش كمرجعية أدبية، فيستشهد بشعره كصوت يعبر عن المأساة الفلسطينية، وكذا توفيق زياد وأميل حبيبي وغيرهما، فاستخدم الشعر لربط الحاضر بالماضي وأظهر أنه بالإمكان أستخدام الأدب في فضح الممارسات البشعة للكيان الإسرائيلي. كما استخدم الكاتب الشعر كوسيلة لمقاومة النسيان، حيث كانت الحكايات جزءاً من إعادة بناء الذاكرة الجمعية، وبأن الشعر أداة للمقاومة أيضاً وبأن الأدب قادر على مقاومة النسيان واستعادة الهوية.
“شعب يُهزم لكنّه لا يموت، موته انتصار بالموت، وقدرته على البقاء انتصار بالحياة”، شعب مناضل عصيّ على الاقتلاع، ثابت في أرضه رغم الدمار والتدمير، وهذا مصداق لقول محمود درويش الوارد في كتابه في حضرة الغياب عن إميل حبيبي: “لقد أوصى بأن يُكتب على شاهدة قبره “باقٍ في حيفا”.
نجح إلياس خوري في ثلاثيته “أولاد الغيتو” في نقل صورة واضحة عما يعانيه من تبقى في الداخل الفلسطيني وفي الشتات ومآسي اللجوء والغربة والهوية الممزقة في المنفى، فنقل إلينا معاناتهم مع الاحتلال الإسرائيلي، وفتح أبوابًا واسعة لفهم أعمق للتجربة الفلسطينية عندما سلط الضوء على الهوية والانتماء والتحديات التي واجهها الفلسطينيون من خلال استخدام السرد بوصفه وسيلة لفهم التاريخ ومقاومة النسيان، “فحكاية الطفل الذي كُنته يا ابني تُلخص مسيرة الموت التي خاضها سكّان اللدّ بعد طردهم من مدينتهم، تحت شمس رصاصية لا ترحم، بل هي تلخّص الحكاية الفلسطينية كلّها، إنها رمز إنسانّي شامل”.
حتى الأطفال أصبح في وعيهم الجمعي الموت جزءاً من حياتهم “اللعبة الوحيدة التي تبقّت لنا هي لعبة الموت المفضّلة لأطفال المخيّم هي لعبة الشهيد؟، مجموعة من الأطفال يحملون نعشاً يتمدّد عليه أحدهم، يحملونه ويمشون ويهتفون. يصعد الأطفال إلى النعش بالدور، الكلّ شهيد والكلّ يهتف للشهيد”.
يمكننا القول بأن رواية “أولاد الغيتُّو” هي ملحمة إنسانية أعادت لمن يقرأ أجزائها الثلاثة صورة الوضع الفلسطيني في الداخل وفي الشتات وفي المنفى، ذكّرنا الكاتب بالقمع والإرهاب والتنكيل الذي مورس ويمارس على الفلسطينين من قبل الاحتلال الصهيوني من خلال توثيق هذه الجرائم منذ النكبة في العام 1948 حيث ولد بطل الرواية آدم دنون، “أما فلسطين فحكايتها قديمة ولها أسماء لا تُحصى، وتلك الأسماء كلّها تُختصر في صفةٍ واحدة اسمها القداسة أو الوعد الإلهيّ”. ولتحقيق هذا الوعد كان عليهم أن يسفكوا الكثير من الدماء والدمار وطرد السكان والتنكيل بهم.
أطلق إلياس خوري في روايته هذه صرخة ضد نسيان ما جرى للفلسطينيين من مآسي وألآم، مقدّما رسالة إنسانية عميقة تتجاوز حدود الزمان والمكان بأسلوب فني راقي، راوياً حكاية مسيرة الموت والقهر والتعذيب والبطولات الفلسطينية أيضاً.