أميركا .. إلى أين تقود عالمنا ؟

0
10

المتتبع لحالة الأوضاع السياسية والاقتصادية حول العالم لا يمكن له أن يهمل حالة التأزم والتوترات المتزايدة في أكثر من منطقة وبقعة حول العالم، كما أنه لا يمكن أن يغفل تراجع دور المؤسسات الدولية الناظمة بشكل متزايد، خاصة بعد انتهاء ما اصطلح على تسميته بالحرب الباردة، أي بعد سقوط المعسكر الاشتراكي كقوة وازنة في المشهد الدولي حينها، وما تبع ذلك من تحولات جيوسياسية واقتصادية وتحالفات، وتغيرات في موازين القوى الدولية.  تلك التحولات في مجملها سمحت للولايات المتحدة الأميركية ببسط هيمنتها على مجمل المشهد العالمي وبالتالي على المنظمات الدولية والتحكم في مواقع القرار الدولي.

 وبفعل تنامي نهج الهيمنة والسيطرة الإمبريالية المكشوف لدى الولايات المتحدة الاميركية وحلفاءها الغربيين، وما يصاحبه من نزعات جشع واستعلاء وحتى سقوط اخلاقي، فضح بدوره ممارسات ما سمي بنظام العالم الحر، على الرغم من كل محاولات التجميل التي صاحبته تحت دعاوى مثل نشر الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان تحت مظلة حماية النظام الدولي، الذي أصبح في واقع الحال نظاماً لحماية المصالح الإمبريالية الأميركية وما يتبعها من أنظمة ودول حليفة.

ومع تبدل السياسات وتعاقب الرؤساء والإدارات الحاكمة للولايات المتحدة، إلا أن نهج الهيمنة هذا بقي هو العنوان الأبرز، والذي بني اساساً على ضمان استمرار بسط السيطرة عبر أساليب القوة العسكرية وأدوات التخريب المجربة، والتي من بينها على سبيل المثال لا الحصر إشعال الحروب والقلاقل والانقلابات العسكرية وتغيير أنظمة الحكم بالقوة المسلحة أو بالثورات المصطنعة أو عبر حروب بالوكالة، دون توقف نزولاً عند اشتراطات ما عرف بالمجمع الصناعي العسكري، أو بإضعاف الدول وإغراقها المستمر في أوضاع اقتصادية مزرية ومديونيات لا طاقة لها بها، تحت ذرائع مثل الإصلاح الاقتصادي المزعوم ضمن أجندات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أو حتى بفرض حصار اقتصادي وسياسي وعزلة مستمرة لتقويض دعائم الاستقرار في أكثر من منطقة أو دولة لصالح حسابات سياسية محددة تفرضها طبيعة النظام الدولي ومصالح القوى المسيطرة فيه.

تلك وغيرها من المسلمات طبعت بدورها طبيعة وبنية النظام الرأسمالي ، وبشكل اكثر تأثيراّ  بعد انفراد الولايات المتحدة بناصية القرار الدولي، لكن مما يمكن ملاحظته خلال السنوات العشر الأخيرة على الأقل، أن نتائج تلك السياسات أضحت آثارها مدمرة على العالم بأسره بصورة مفضوحة، والتي تكشف  في جوهرها عن حجم التحديات والمصاعب التي يواجهها النظام الرأسمالي العالمي ذاته بقيادة الولايات المتحدة بفعل بروز قوى دولية وتجمعات جيوسياسية مؤثرة تحاول أن تعيد حالة مرجوة من التوازن المفتقد منذ ما قبل انتهاء الحرب الباردة، لضمان مصالح  تلك القوى الكبرى الوازنة مثل الصين وروسيا والهند وغيرها من الدول ذات التأثير الفاعل في صياغة المشهد الدولي بصورة اكثر عدالة واحتراما للقانون، مع ضمان استمرار واحترام المؤسسات والمنظمات الدولية الناظمة لحالة الاستقرار العالمي،  لذلك يجب أن نفهم تلاعب الولايات المتحدة بمصير العالم بأساليب متعددة، تارة عبر تدخلاتها السافرة ضد مصالح الدول وعدم التورع  عن استخدام أدواتها التخريبية المتاحة من تدخلات وحروب وفتن وإلغاء لدور المؤسسات الدولية كما يحصل مع تلاعبها وتجييرها لمنظمات مثل مجلس الأمن والأمم المتحدة لخدمة مصالح الولايات المتحدة وحدها، مثل خروجها غير المبرر من منظمة الصحة العالمية، وخروجها المعلن من اتفاقية باريس للمناخ،  والإيعاز لأداتها المدمرة على ارض فلسطين، دولة الكيان الصهيوني بإلغاء دور وجهود الأونروا وتجريمها لمحكمة الجنايات الدولية فقط لأنها تجرأت بإدانة  رئيس وزراء الكيان الصهيوني ووزير حربه السابق وأعضاء من حكومته،  جراء ما اقترفته حكومة الاحتلال من إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني المقاوم للاحتلال، وقف العالم بأسره ضدها.

 وهي لم تكتف بذلك بل إنها مستمرة في خلق الذرائع والحجج لإبقاء حالة مستدامة من التشنج الدولي، كما تفعل مع تغيير مسمى خليج المكسيك ليصبح خليج أميركا والإيعاز لشركة غوغل بتبني المسمى الجديد! وهي في طريقها لتحقيق  مشروع ادارتها الجديدة ورئيسها دونالد ترامب بالاستيلاء على قناة بنما كممر مائي عالمي هام، والدعوة لضم كندا لتصبح الولاية الحادية والخمسين للولايات المتحدة والمطالبة بضم جرينلاند الدنماركية، بالإضافة إلى سعي الولايات المتحدة الأميركية لإنهاء حربها المفتعلة أصلا في أوكرانيا منذ سنوات ضد روسيا، والتي راح ضحيتها ما يقارب المليون إنسان، مقابل ثمن الحصول على خمسين في المائة من معادن وثروات أوكرانيا، والدعوة لطرد الشعب الفلسطيني في غزة المقاومة وإبادته وتهجيره بالقوة إلى دول الجوار في مصر او الأردن او حتى إلى  المملكة العربية السعودية وإندونيسيا! في استهتار واضح بأبسط مقومات وأسس القانون الدولي والعدالة الإنسانية وحقوق الإنسان.

علينا التأكيد هنا أن تلك الحروب وذلك الخراب لم يحدث بسبب إدارات أميركية بعينها أو عبر وصول رئيس ديمقراطي او حتى جمهوري، فالاثنان لا فرق بينهما لأن الواقع يكذب ذلك على الدوام، إنما هو نهج متأصل في كيفية إدارة الولايات المتحدة الاميركية زعيمة النظام الرأسمالي العالمي وتوابعها من الدول الغربية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية التي خرجت بعده الولايات المتحدة الاميركية كإحدى أكبر القوى المنتصرة، مستغلة حاجة أوروبا والعالم لقيادة جديدة جراء ما ترافق مع تلك الحرب المدمرة من دمار على كل المستويات والحاجة بعدها لبناء نظام عالمي تصبح فيه اميركا القوة المهيمنة دون رحمة على العالم!   

ومع دخول الولايات المتحدة الأميركية في مراحل شيخوختها وجنونها، ومع ترهل إداراتها ونظمها الداخلية،  وانفضاح مستويات الحالة الديمقراطية العامة وحقوق الإنسان فيها ، وتزامن ذلك مع حجم التحديات غير المسبوقة أمامها، خاصة مع ما تمثله الصين كحالة اقتصادية متعاظمة يصعب ايقافها في ظل المعطيات القائمة حالياً، لذلك أصبح لزاماً على صانعي القرار الاميركي، بغض النظر عن من يدير البيت الأبيض، ان يستمروا بجنون العظمة والاستعلاء الذي أدمنوه لعقود طويلة ان يرفضوا ولو مؤقتا النزول او التنازل أمام ما يواجههم من تحديات فعلية، مستمرين في نهج مجابهة القوى المؤثرة واستحلاب القوى الضعيفة، أو محاولة تدمير منافسيهم الحقيقيين امًا عبر استخدام القوة العسكرية والحصار وشلّ القدرات الكامنة، كما يحدث مع روسيا المحاصرة منذ أكثر من ثلاث سنوات مضت، مستخدمين ما أتيح لهم من أدوات تخريبية وحروب عبثية وصولاً لاستخدام سلاح النفط ومحاولة التلاعب بالقوى المنافسة للولايات المتحدة في اسواق النفط العالمية، أو محاولة فرض قيود وتعرفة جمركية غير عادلة ليس على الصين لوحدها وإنما حتى على أقرب حلفاء أميركا مثل دول الاتحاد الأوروبي وكندا وكذلك على الصين والهند.

وفي المقابل تتصاعد الدعوات مع وصول الرئيس الجديد للعودة مجددا نحو منطقتنا العربية والخليجية على وجه التحديد، لمحاولة تكرار نهج الابتزاز وسرقة خيرات وموارد شعوبنا. من اجل اشباع نهم وجشع الإدارة الاميركية دون الالتفات لما يمكن أن توصله تلك الدعوات المجنونة من دمار وتخريب وسرقات، وبالتالي حروب وتشنجات دائمة وغياب كامل للعدالة والقانون الدوليين في ابسط صورهما!

 تلك مؤشرات لابد لنا من قراءتها جيداً وبتمعن أكبر ونحن نتابع حالة المشهد الدولي العالمي وانعكاساته المنتظرة على العالم بأسره، وتحديداً على دولنا ومقدرات شعوبنا الخليجية والعربية، خاصة عندما تصبح تلك الدعوات مقرونة بشكل واضح بنهج جدي دُرس طويلا في دوائر البحث الأميركية والغربية لتغيير واستلاب  حالة التوازنات القائمة إقليمياً ودولياً في منطقة تعج بالثروات المادية والبشرية، في دول لا تملك التحالفات المطلوبة أو الفاعلة لمجابهة كل ما يرسم لها من مخططات مدمرة وتتميز  اغلبها بهشاشة  وتبعية مزمنة في أنظمتها وهياكلها الاقتصادية والسياسية مما يجعلها في مواقف ضعف وابتزاز  ضمن عالم أضحى متوحشا بصورة لا تطاق،  الأمر الذي يفرض أموراً أكبر بكثير من ما تتنادى له العديد من دول المنطقة من مؤتمرات وقمم  تؤجل أو تعقد، لا فرق،  ووسط خلافات لا تنتهي أو لجان وهياكل ومؤسسات مهترئة هي في نهاية المطاف عناوين عريضة لعجز مريع  أبقانا ويبقينا دولاً وشعوباً في مرمى سهام الطامعين في ثرواتنا  وخيراتنا بقلة حيلة وانكشاف وضعف رغم ما نمتلكه من مقومات كبرى يمكن أن تجعلنا قوى مؤثرة عالميا لو أحسنا التصرف قليلا!

 تلك هي بعض المؤشرات والقرارات التي اتخذها حاكم البيت الأبيض الجديد القديم بكل ما عرف عنه من نرجسية وعجرفة سياسية يحسد عليها خلال أقل من ثلاثين يوماً من تنصيبه، محولا السياسة الدولية والقانون الدولي إلى قانون الغاب كما عبرت عن ذلك صحيفة الجارديان البريطانية في احدى افتتاحياتها مؤخراً!

هكذا إذا تنحدر الأمم والدول الكبرى بشكل متسارع بفعل نهج الهيمنة والغلو اليميني نحو هاوية السقوط المدوي عبر انفلات وعجرفة فاشية، في ظل عالم أضحى يختمر بالكثير من الاحتمالات والسيناريوهات المؤجلة، التي حتما ستقود العالم بأسره نحو أوضاع صعبة للغاية وحروب كبرى لا سبيل لإيقافها إلا عبر الإذعان لمراجعات عالمية حصيفة وعاجلة إنقاذا لعالمنا من كل هذا الجنون والتوحش الامبريالي ومخاطره المحدقة بالبشرية جمعاء.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا