مائدة الأماني

0
6

في ظهيرة دافئة، اجتمع الأصدقاء في بيت “ريما”، كما اعتادوا بين الحين والآخر، ليملأوا الطاولة بضحكاتهم  وأحاديثهم  المتشابكة. بعد الغداء، ومع فناجين القهوة، بدأت النقاشات المختلفة، ثقافية وتربوية وطبية فلقد كان الأصدقاء خليط من التخصصات والجنسيات ثم بعد ذلك اقترح أحدهم أن نرمي بأمنياتنا،  كل شخص تحدث عن أمنية تمناها وأخفاها في قلبه. حتى جاء دورها ببراءة شديدة وثقة في أصدقائها تنهدت “ليلى”، وهي تحرك الملعقة في شايها، ثم قالت بصوت هادئ لكنه محمّل بشيء من الشجن:

— “أمنيتي أن أحب وأُحب، بلا قيود… أن أشعر أنني لست وحدي، أن يحيطني الحب، دون أحكام أو قيود أو خوف.”

ساد صمت قصير، وكأنها ألقت قنبلة  فكل الأماني كانت مادية، فجابر تمنى ترقية، ومحمد تمنى عيادة، وشادي تمنى أن يحصل على جنسية تخلصه من شتاته، نظر الجميع لها في حيرة العاجز عن الرد، هل هي جرأة زائدة منها أم أنها ثقة مفرطة في وعي أصدقاءها، لا أحد يعرف ماالذي جعلها تنطق بهذه الأمنية المجنونة، ودون أن تلحظ نظراتهم المشفقة وغمزاتهم التي تحمل الكثير من السخرية أكملت شايها، ثم انسحبت مسئذنة وهي سعيدة لأنها استطاعت أن تبوح بحاجتها أمام أصدقاء على درجة كبيرة من الوعي والثقة

خرجت وشريط طويل من الفقد والحرمان يحاصرها، عاشت يتيمة الأب لم تعرف معنى ذلك الظل الوارف من الأمان، تعيش في خيالها صورة أبٍ لم تسنح لها الفرصة أن تحيا معه تعانقة تشم رائحته وتنطوي تحت حنانه.

تزوجت صغيرة وكانت تعتقد أن هذا الزواج سيعوضها حرمان الأب لكنها  قضت عمرًا تشعر بأنها مكبلة… كانت زوجة لرجل لم يعرف كيف يعزف على نوتات قلبها ، بل لم يعرف سوى السيطرة والعنف. سنوات وهي محاصرة بالخوف، حتى انفصلتُ، وظنت أنها ستكون حرة… لكنها وجدت الوحدة تنتظرها خلف الباب. وشعور الحرمان ينتفخ كبالون قابل للإنفجار في أي وقت، تنهدت بحرقة قائلة:

آه ما أبشع أن تعيشي سنوات دون أن يربت أحد على كتفكِ، دون أن تشعري أنكِ شخص محبوب لذاتكِ، لا لدوركِ في حياة أحد.

أما أصدقاؤها فقد انفجروا ضاحكين من أمنيتها حتى قبل أن تبتعد كثيرا عن منزل ريما  وما أن توقفوا حتى أسرعت ريما بالحديث  بنبرة ساخرة لم تستطع معها كبح رغبتها في الحديث وتخفي استغرابها نظرت إلى “شادي” الذي يجلس بجانبها  ، ثم مالت نحوه قائلة بصوت خافت لكنه محمل بالمعنى:

— “أرأيت كيف كانت تتحدث؟ وكأنها تبحث عن الحب في كل مكان! لا عجب، فقد كانت على علاقة بفلان… وأظن حتى فلان الآخر كان قريبًا منها إنها تتأرجح بين هذا وذاك

ضحك شادي وهو يقول هكذا إذن ، ثم انساق الجميع  مع همسات ريما السامة، غير مدركين أن ليلى كانت تقف عند الباب عادت لأخذ حقيبتها الثانية التي تحوي أوراق امتحانات طالباتها. وقفت ترتجف أمام الباب من هول الصدمة ثم عادت مسرعة لسيارتها وهي تبكي  الصدمة تُصمت لكنها تترك صدى يدوم.

أرسلت لها رسالة مقتضبة:

“كنتِ صديقتي، كنتِ أختًا لي… لم أتوقع أن تكوني أول من يطعني عندما فتحتُ قلبي. شكرًا، لقد تعلمتُ درسي جيدًا.”

شعرت ريما بانقباض في صدرها، لكنها لم تجد ما تبرر به فعلتها، فالنميمة، مهما كانت ناعمة الصوت، تظل سكينًا قاتلة في ظهر الثقة.

أما ليلى، فقد تعلمت درسًا قاسيًا:

“ليست كل الآذان جديرة بسماع أسرار القلب، وليست كل القلوب تعرف كيف تحتفظ بالثقة.”

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا