على مرأى من عدسات الكاميرات الصحفية، إنحنى وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في أول زياراته الخارجية للسلفادور أمام طفلة لم تبلغ بعد سن السابعة سائلاً إياها: مرحبا، مع من أتشرف بالكلام
- أهلاً، إسمي ليلى
- بالغ سروري التعرف عليكِ، معكِ ماركو روبيو
خلف الرجل الأهم في حكومة ترامب كان يتابع المشهد رجل آخر إستطاع أن يغيّر الحياة في السلفادور مرةً وإلى الأبد. إنه الرئيس السلفادوري الشاب، ناييب أرماندو بوكييلي أورتيز، ويمكنني أن أتخلص من عبء كتابة أسمه الطويل وأذكر إسمه العربي “نجيب بوقيلة” مباشرة في بقية مقالي، فالرجل هو فلسطيني الأصل من أبٍ من بيت لحم وأم سيلفادورية، عندما تولى الحكم في السلفادور كان أصغر رئيس في العالم يتولى الحكم، في عمر السابعة والثلاثين، قبل أن يكسر هذا الرقم رئيس الإكوادور الحالي دانييل نوبوا بعده بثلاث سنوات عندما تمّ إنتخابه رئيسا وهو لم يتجاوز الرابعة والثلاثين من العمر.
أظهرت كاميرات مراسلين الأخبار أيضاً مشهد وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو و الرئيس نجيب بوقيلة يتبادلان حديثاً هامساً وقوفاً على شرفةٍ تطلّ على بحر رائق على إمتداد المدى الواسع. قيل فيما بعد في نشرات الإخبار أن هذا الحديث الهامس تضمن عرض بالغ الأهمية مقدم من نجيب بوقيلة إلى وزير الخارجية الأمريكي بأن يكون أشهر سجون السلفادور وأكبرها؛ إذا لم يكن أكبر سجون العالم على الإطلاق هو المقر الأبدي الأخير لأخطر سجناء الولايات المتحدة الأمريكية.
ولكي أتحدث عن تأريخ هذا السجن وعن أنظمة العقوبة التي ابتكرها نجيب بوقيلة فغيرت تأريخ الجريمة في السلفادور، وربما تغيير تأريخ الجريمة في القارة اللاتينية بأكملها سأترك نجيب بوقيلة و ماركو روبيو في شرفتهما قليلاً، وأعود بالزمن إلى الوراء أكثر من خمسين سنة، إلى العام 1972 عندما إشتعلت في السلفادور حرب أهلية دامية أرغمت الآلاف من السلفادوريين إلى الهجرة واللجوء للولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان ينتظرهم الفقر والتشرد في أزقة لوس انجلس وولايات أخرى. العزلة والحاجة والعنصرية جعلتهم يعيشون في مجتمعات مالبثت أن تحوّلت الى بؤر للجريمة من سرقة ومتاجرة بالمخدرات مما دفع السلطات الأمريكية في ثمانينيات القرن الماضي إلى القيام بحملة إعادة إجبارية لهؤلاء المهاجرين إلى بلدهم الأم السلفادور.
المهاجرون المنبوذون الذين عادوا إلى السلفادور هم أنفسهم المستضعفون الذين غادروها، عادوا وقد تمرسوا على العيش بطريقة السلب والترهيب وحكم القوي، فتشكلت منهم العصابات المنظمة التي تحكمت في مصير السلفادور عقود طويلة من الزمن حتى أصبح البلد الأكثر خطورة في العالم. الإنتماء إلى العصابات أو في أضعف الأيمان التعاون معها، أصبح مفخرة في السلفادور، فكلّ من ليس معنا فهو ضدنا بالضرورة هو القانون السائد هناك. تستقطب العصابات الأطفال من أعمار صغيرة وتخضعهم إلى إختبارات “من يستطيع أن يرتكب أكبر عدد من الجرائم يلتحق بالعصابة أسرع، ويحظى بمكانة مهابة في المجموعة، ويتملك مميزات تجعل كلمته سيفاً على الرقاب. يصل الفرد منهم الى سن العشرين وقد قام بقتل ثلاثين شخص على الأقل، والكثير من الجرائم التي لا تحصى.
أكثر عصابات السلفادور شهرة و خطورة هي عصابة “18 ثوري” و”18 الجنوبي” و”MS13″. فرضت قوانينها الخاصة على المجتمع السلفادوري، وأجبرت أصحاب المحلات التجارية ومُلاك العقارات على دفع جزية شهرية مقابل تركهم يعملون ويعيشون في سلام، واستولت على قطاع النقل العام وإستخدمته في نقل ضحاياها ومعدّاتها. لم تفلح إجراءات السلطات الحكومية في الحدّ من تكاثر العصابات وقمع تسلطها، حيث كانت، وتجنباً للصراعات المحتملة تضع السجناء من أفراد كل عصابة في زنازين خاصة بها، لذلك السجون باتت مقراتهم المفضلة التي يديرون من خلالها عملياتهم في الخارج. وبلغوا من السطوة أن الحكومات التي تعاقبت على السلفادور والبعثات الأجنبية كانت تجري معهم مفاوضات وتعقد معاهدات لا تتلزم بها العصابات أغلب الأحيان.
لم يكن من الغريب في السلفادور أن يقطع التلفزيون بثه ليعلن عن بث مؤتمر صحفي للناطق الرسمي لإحدى العصابات من داخل السجن، يصدر من خلاله القرارات لعامة الشعب وللسلطات الحاكمة. بلغت سلطة هذه العصابات أن باتت تحدد للناس ماذا يرتدون من ملابس و كيف يحلقون شعر رؤوسهم. منعت إرتداء القمصان المكتوب عليها أرقام أو أي صور أو رسومات أو إختصارات أمريكية، وحرمت إرتداء الأحذية الرياضية من ماركة “نايك” فهذه الملابس خاصة فقط بأفرادها ويمنع منعاً باتاً على كل من لا ينتمي إليها أن يرتديها. حرّمت على الرجال حلق الشعر من الجوانب وترك شعر المنتصف فهي قصة الشعر الخاصة بهم، وحرّمت على النساء تمشيط الشعر في جدائل أو تلوينه باللون الأحمر أيضا لأنه خاص بعضواتها من النساء.
كان الوضع في السلفادور جحيما إلى أن جاء الشاب نجيب بوقيلة الى القصر الرئاسي؛ الرئيس السابع والثمانون للبلاد، والذي قال منذ اليوم الأول أن إعادة الأمن الى شوارع السلفادور هو الأولوية، فأعلن في البلاد حالة الطوارئ القصوى، ونشر أقوى وحدات الجيش والعمليات الخاصة من الشرطة على إمتداد السلفادور.
تمّ إعتقال كل من ثبتت عضويته أو حتى إشتبه في عضويته إلى تلك العصابات دون الحاجة إلى مذكرة قضائية. وضع ميزانية فاقت ملايين الدولارات في إعداد أفراد الأمن بأجهزة الطائرات المسيرة الإستخباراتية وتدريب القوات على التعامل مع شراسة تلك العصابات وإعدادهم جسديا للمواجهة. قامت حكومة نجيب بوقيلة ببناء سجن بلغت مساحته سبعة ألف هكتار قادر على إستيعاب أكثر من أربعين ألف سجين وجهزته بأحدث وأقوى نظم الحراسة المشددة وأعتدته، ليكون سجناً أبدياً لكل أفراد العصابات لا يخرجون منه مدى الحياة، وحتى لا تتحول زنازين السجن إلى مقرّات لإدارة العمليات كما كان يحدث في السابق. تمّ مزج أفراد العصابات الثلاث في زنزانة واحدة، ومنع عنهم كل وسائل الإتصال مع الخارج، لا هواتف، ولا زيارات عائلية، ولا وسائط إخبارية.
زنزانة هذا السجن لا تحتوى حوائط تمنع الرؤية بل قطبان تكشف كل ما يدور داخلها وأسرته لا تحتوى لحف ولا وأغطية لكن ألواح من المعدن فوق بعضها البعض. جدارانه خالية من مراوح أو مكيفات هوائية بل أنظمة تهوية طبيعية من فتحات أعلى حيطان الممرات الطويلة، لا تطفأ أنوار السجن أبداً ويقف أمام قطبانه الممتدة المئات من الحرس في مراقبة دائمة على أسطح الزنزانة وضعت شبكة فولاذية تسمح بالرؤية من خلالها لكل ما يدور أسفل في داخلها. لا ملاعق ولا سكاكين ولا أكواب معدنية أو زجاجية تقدم في هذا السجن.. لا يقدّم كل ما يمكن أن يستخدم كسلاح أو أداة لإرتكاب أي عدوان أو جريمة.
في هذا السجن الذي أطلق نجيب بوقيلة عليه إسم “سيكوت”، يمنع منعاً باتاً أن تحتوي وجبات الطعام فيه على أي نوع من أنواع اللحم، وذلك لأن الرئيس نجيب بوقيلة قال في خطاب جماهيري شهير قمتُ بترجمة هذا المقتطف منه: “لسجون في السلفادور تكلف مبالغ طائلة يدفعها المواطن العادي على هيئة ضرائب، فلا يتمكن من شراء اللحم ويكتفي بتناول الفاصوليا والأرز ليأكل هؤلاء المجرمون اللحم في السجون، بعد أن سلبوا المواطن أمنه وطعامه. لن يأكل افراد العصابات في سجن سيكوت اللحم حتى يتمكن كل فرد من أفراد الشعب تناول اللحم ثلاث وجبات في اليوم”
هذه اليد القوية التي تعاملت بها حكومة نجيب بوقيلة مع العصابات والعقوبة الفولاذية التي يتم تنفيذها في سجن سيكوت أثارت إنتقادات كبيرة من منظمات دولية إتهمت الرئيس الشاب بإنتهاك حقوق الإنسان، فردّ على هذه الإنتقادات في خطاب جماهيري آخر نترجم منه هذا المقتطف: “عندما حوّلت هذه العصابات الحياة في السلفادور إلى جحيم لم تقولوا شيئاً، بل عقدتم معهم المفاوضات، وصفقتم لهم والآن عندما منعنا عنهم لحم الدجاج في السجن خرجت أصواتكم، لن يقدّم اللحم في سيكوت حتى يصبح في مقدور كل مواطن سلفادوري تناول اللحم ثلاث مرات في اليوم”.
في غضون سبع سنوات من حكم نجيب بوقيلة السلفادور وسياسته الحديدية في محاربة الجريمة والعصابات المنظمة تحوّلت الدولة من البلد الأكثر خطورة في العالم الى أكثر دول أمريكا اللاتينية أمناً و سلامةً. وإن كان سجن سيكوت الذي قدّم به نجيب بوقيلة عرضه ذاك اليوم على الشرفة لوزير الخارجية الأمريكي في أن يكون هو المقر الأبدي لكل المحكومين بالسجن المؤبد في أمريكا السجون تجربة فريدة في عالم العقوبات، فإن لحكومة نجيب بوقيلة تجربة فريدة أخرى من السجون وهي تجربة السجن الذاتي التكلفة، أطلق عليه إسم “سجن سانتا آنا” وهو نظام عقوبة جديد يقضي فيه المحكوم عليهم سنوات الحبس من غير أفراد العصابات سنوات عقوبتهم، ينتقل إليه السجناء بعد أن يكون قد قضوا فترة من مدة الحبس في السجون العادية وثبت حسن سيرهم وسلوكهم وقابلية إندماجهم في المجتمع مرة أخرى كافراد صالحين بعد أن يتم إخضاعهم لإختبارات نفسية وعقلية.
لا يحتوى سجن سانتا آنا على زنازن بل مساحات واسعة من المزارع والبحيرات و الورش الصناعية، حيث يتعلم فيه السجناء الزراعة والصيد والطهي فتكون الوجبات المقدمة في السجن مائة بالمائة إنتاجاً ذاتياً. وفي الورش الصناعية يتعلم السجناء الخياطة، ويرتدون ملابس من صنعهم ويتدربون على صيانة وإصلاح ماكينات الخياطة فلا يكلفون الحكومة أجرة يد عاملة، وفيها أيضاً يتعلمون صنع الطاولات والمقاعد الدراسية ليتم توزيعها على كل المدارس في السلفادور. يحتوي السجن، أيضاً، على ورش فنية لكل سجين صاحب موهبة في الرسم أو النحت تصقل فيها مواهبهم وتعرض أعمالهم في الأعياد الحكومية والمعارض المفتوحة ويساهمون أيضاً في طلاء وتزيين وترميم المستشفيات والمدارس الحكومية.
علينا تخيّل كم الأموال التي إستطاعت حكومة نجيب بوقيلة توفيرها من ميزانية الدولة في تجربة السجن ذاتي التكلفة ونظام العقوبة في سانتا آنا!. “يتخرج” السجناء من سجن سانتا آنا وقد إكتسبوا حرفة تكسبهم لقمة العيش فينخرطون في المجتمع وقد باتوا أفراداُ منتجين.
الشاب “ناييب أرماندو بوكييلي أورتيز” بالإسبانية، “نجيب بوقيلة” بالعربية، الرجل الذي صنع المعجزة في السلفادور وحولّها من أخطر بلاد العالم الى أكثر دول أمريكا اللاتينية أمناً و سلامة في ست سنوات من الحكم، الرجل الذي إختلفت حوله أراء العالم: هل هو دكتاتور أم قائد منقذ، هل سجن سيكوت إستحقاق ام جريمة ضد الإنسانية، الرجل الذي أحبّه الناس في السلفادور ويشكرون فضله بشعبيته المتزايدة بينهم، هو والد الطفلة ليلى التي إنحنى أمامها وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، سعيداً بالتعرف عليها ذاك اليوم في القصر الرئاسي أمام عدسات الكاميرات الصحفية.