ذات يوم صحفي

0
40

تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً فيلم فيديو قديماً يُوثق حكاية راجت في البحرين عام 1982، مُلخصها أنّ مواطناً بحرينياً ظهرت في رأسه قرون كقرون الثور، وأنّه ذهب إلى مستشفى السلمانية للعلاج فتقاطر المواطنون على المستشفى لمشاهدته. ظلّت الحكاية تتفاعل مع الناس لفترة زمنية بين مُصدّق ومُكذّب ومُشكّك إلى أن تلاشت، بعد أن تبيّن زيفها، وقد أجريت تحقيقاً صحفيّاً وقتها، تناولتُ فيه ظاهرة تصديق الخرافات والخزعبلات في مجتمعنا، وفي التحقيق فنّد الأطباء والمختصون هذه الحادثة عدا رجل دين قال: “إنّ الظاهرة ممكنة الحدوث مثلها مثل كل المعجزات”. صحافة “أبو قرون” من الطبيعي أن تظهر في ذلك الوقت، حيث يُهيمن قانون أمن الدولة على مجمل الحياة والأنشطة الاجتماعية والسياسية. كانت الصحافة فقيرة جداً وحذرة أكثر من اللازم، وتبحث كل يوم عن أخبار ومواد متاحة ومسموح بها وسط قانون الصحافة والنشر المجحف والقاسي، قانون الممنوعات كما كنّا نسميه وقتها، وكثير منّا نحن زملاء المهنة كنّا نتعرض للتقريع وللاستدعاء لدى وزير الإعلام على مقال رأي أو خبر فات من الرقابة الصحفية أو الرقابة عند الطباعة، اذ عرفت صحافة الثمانينات رقيباً في المطبعة أيضاً. نشرتُ في العام 1983 رسالة بريد تتحدث عن عدد العمالة الآسيوية الكبير والمتصاعد في البلد وفق إحصاء أجرته سفارة أجنبية، وقد نُشرت الإحصائية في الجريدة الأجنبية “جلف ديلي نيوز”، لكن نشرها في الجريدة العربية “أخبار الخليج” أثار حفيظة الوزير ما استدعى نقلي إلى قسم آخر كعقابٍ مُخفف عن الفصل النهائي. كان ذلك اختباراً لنا جميعاً نحن الصحفيين الذين سنخسر وظائفنا في عام 2011 على خلفية المشاركة في التظاهر أو الكتابة أو تسجيل علامات الإعجاب أو الرفض على مواقع التواصل الاجتماعي. هشاشة المهنة الصحافية ودربها الشائك والخشية من مزالقها وخسارة مصدر الرزق المتأتي منها، كانت تحتم على الكثيرين البحث طوال الوقت عن وظائف أكثر استقراراً وأماناً، كنّا نجلس على مقاعدها وعيوننا تبحث عن مكانٍ آخر وفرصةٍ أفضل.. في العام 2008 أخبرنا الزميل الراحل هشام عدوان أنّه تلقى عرضاً سخيّاً للعمل لدى جهة حكومية، ولأننا نجلس متقابلين ومتقاربين جميعا في صالة التحرير، سألنا: ما رأيكم؟. لم يتوقع هشام أنّ الأغلبية هنأته وتمنت له حياة وظيفية سعيدة ومستقرّة بدلاً من مهنة “الشعبطة” كما كنّا نسميها في ذلك الوقت، “المتشعبط هو مرتاد الحافلة والممسك بأحد أعمدتها، فلا هو جالس ولا هو مستقر”. بعد ثلاث سنوات من تلك الحادثة سيتبين لنا كم هي مهنة “شعبطة” وبهدلة، والأسوا من ذلك أنّها مهنة بلا مستقبل على الإطلاق، “فحبيبة قلبك يا ولدي نائمةٌ في قصرٍ مرصود، من يدخل حجرتها، من يطلب يدها، من يدنو من سور حديقتها، من حاول فكّ ضفائرها يا ولدي مفقود مفقود مفقود”. تلك مواصفات الصحافة والحبيبة العصيّة على الامتلاك كما وصفها شاعرنا الراحل نزار قباني.خمسة مؤشرات تعتمدها منظمة “مراسلون بلا حدود” لتقييم صحافة أي بلد وهي متوفرة على موقع المنظمة. مؤشر حرية الصحافة تعدّه المنظمة حجر الزاوية إذ تضمن عبره حقّ الصحفيين في الوصول إلى المعلومات والتعبير عن آرائهم ونشر أفكارهم بحريّة تامة دون قيد أو تدخل من الحكومة، مع ضمان حمايتهم من أي اعتداء أو تهديد بل ومحاسبة كلّ من يرتكب جرائم ضد الصحافة، كما تؤكد على استقلال وسائل الإعلام ضمن بيئة تعددية وتنوّع إعلامي لضمان وصول المعلومات للجمهور من مصادر متعددة وغيرها. اليوم لدينا صحافة ورقية والكترونية تستمد كلّ مصادرها من مركز الإعلام الواحد الموحد، وهو شيئ لم تعرفه حتى صحافة أمن الدولة في الثمانينات، لذا تجيء البحرين في مراتب متدنيّة على هذا المقياس عاماً بعد عام، حيث سجلت البحرين هذا العام المرتبة 173 من أصل 180 دولة. أحد أسباب هذا التردي هو قانون الصحافة الذي ناقشه البرلمان مؤخراً بعد غياب طويل امتدّ لأكثر من 22 عاماً، وهو لا يختلف كثيرا عن القديم، وتضمّن أيضاً التفسيرات المتعددة والملتبسة وأبقى على ذلك الجسر الدائم مع قانون العقوبات الذي يُجرّم الكلمة وحرية التعبير.غادرت الجماهير الصحف الورقية واتجهت إلى الإعلام البديل تلتمس المعلومة الصحيحة والموثقة من هنا وهناك وسط سيلٍ جارفٍ من الأخبار والتقارير الحقيقية والمزيّفة والتي لا يعرف كذبها من صدقها، فما أحرانا أن نعتمد قانوناً متطوّراً يتلائم مع الزمن الحرّ لإعادة الاعتبار والموثوقية لصحافتنا الأصلية، وأن نخلق البيئة الإعلامية المتنوعة لملء الفراغ الكبير الذي تعانيه الصحف بفعل الرقابة المشددة والمقيّدة لحرية الرأي والتعبير، وقديما قال الفقهاء: تتغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا