نحو تشريعات جديدة تنصف المرأة في مجتمعنا

0
33

العدالة الغائبة بين السينما والواقع


بين الحياة والسينما، تتشابه الكثير من الصور والأحداث، مما يجعلها مترابطةً في القصة والمعنى. وبين أزمنةٍ مختلفة، وبيئاتٍ مختلفة، القصة هي ذاتها، بدروسها المنسية وأطرافها غير المتوازنة، والتي تتكامل عبر منظومة الاستغلال وتراجع العدالة، وما زالت تتكرر إلى يومنا هذا.

في نهاية السبعينات، قدّم الفنان الكبير (آل باتشينو)، دوراً عظيماً من أدوار التمثيل السينمائي، هدفه الرئيسي، هو أن تكون العدالة للجميع. هذا ما يخبرنا به جوهر الفيلم الذي جاء  بعنوان: and justice for all. القصة الرئيسية في الفيلمتدور حول شخصية المحامي (آرثر كيركلاند) والقاضي (هنري فليمينغ). ولأن الغاية من القضاء هي تحقيق العدالة والإنصاف، والغاية من الأنظمة والقوانين تطبيقها؛ نكون قد تعرفنا على نقطة الخلاف الرئيسية بينهما، أي بين أبعاد العدالة وقيمها، ونفوذ السلطة ومركزيتها، والتي يُضيئ عليها الفيلم بشكلٍ واضح.

الجزء الأكثر أهمية في هذا الفيلم، هو عندما يقع القاضي في تهمة الاغتصاب، ويتم استدعاء المحامي، الخصم اللدود، لأسباب سياسية واعلامية؛ من أجل تغطية الأزمة التي وقع بها هذا القاضي. إن الحياة ليست مثالية، والبشر كذلك أيضاً. نعم، هي معادلةٌ صعبةٌ وقاسية، وتحمل الكثير من الالتزامات والمسؤوليات، ولكنها تعكس نوعاً من الصدق وعدم الازدواجية، ترتقي من خلاله المجتمعات التي ترفض التسليم بعادات الظلم ومفاهيم الرجعية.

تبدأ محاكمة القاضي، وبرفقته المحامي (الدور الذي يؤديه آل باتشينو)، الذي تمّ إقناعه من عدة جهات، بأن يتولى مهمة الدفاع عن هذا القاضي. وعندما تتساهل منظومة العقاب في تحقيق العدالة، فإنها تشجع على المزيد من الظلم والأذى بحق الإنسان. وإن هذا الأمر، هو الذي دفع بالقاضي، بإعلان نيته من جديد، إلى المحامي برفقته، عن تكرار فعل الاغتصاب بحق المرأة/الضحية، عندما نظر إليها في قاعة المحكمة.

وقف المحامي أمام هيئة المحلفين، محاولاً فهم الموقف الذي صارت إليه المحاكمة. قاضٍ معتدٍ، ويتم التستّر على أفعاله، وضحيةٌ يبدو أن حقها سيضيع، في ظل هذه المنظومة الفاسدة. بدأ المحامي بالبكاء في تلك اللحظة. قام بسرد موقف القاضي وأقوال الضحية، متتبعاً الطريق المنطقي للأحداث؛ قبل أن يصل إلى قراره الأصدق، وهو أن يكون مع احترامه لذاته، ليعلن على الملأ، أن الادعاء العام، سيتمكّن اليوم من إدانة هذا القاضي المغتصب، والذي يجبُ أنْ يُزَجَّ به في السجن فوراً، حمايةً للعدالة والمصلحة العامة.

في الحياة البحرينية، هنالك مقاربةٌ كبيرةٌ لهذه القضية، تجري أحداثها في المحاكم الشرعية، والأطراف والخصوم فيها، أكثر عدداً وتعقيداً من أطراف القضية الأولى؛ بسبب تداخل التقاليد والموروثات مع الجانب الديني، وأيضاً بسبب الأعراف الاجتماعية والجمود الفكري، الذي تشتهر به المجتمعات العربية من دون المجتمعات الغربية.

العدالة للجميع، هي من أكبر المبادئ التي تفتخر بها المجتمعات المتقدّمة، وصيغتها الرئيسية هي الإنسانية، التي تحاول الارتقاء عن التمييز بين الرجل والمرأة، من خلال الإنصاف الحقيقي لهما. ولكن هنالك دولاً ومجتمعات، لم تصل بعد لهذه المقاربة، ولا زالت قانعةً بالتقاليد الجامدة والموروثات السيئة، وقد أختارت – إلى الآن – أن تنظر إلى النصف الثاني من المجتمع، أي إلى المرأة، نظرة الدور التقليدي البعيد عن طموحاتها في الإنجاز والحياة.

في البحرين، كتبت محاميةٌ بحرينيةٌ مقالاً مهماً في الصحافة المحلية، ولا أعلم عن مدى تأثيره على الوعي الاجتماعي وأصحاب الشأن وقتها؛ ولكن الذي أتذكره، أنني لم أقرأه في مرحلة نشره الأولى، وهو على ما يبدو، أنه لم يلاق الاهتمام المطلوب، بسبب تلك النظرة التقليدية للمرأة، والتي أشرنا لها في الفقرات السابقة. وجاء المقال بعنوان: (لمحة عن واقع القضاء الشرعي الجعفري في مملكة البحرين)، لكاتبته المحامية نفيسة دعبل، والمنشور في صحيفة الوسط البحرينية، بتاريخ 25 سبتمبر 2013.

إن الظلم والاستغلال في الحياة، يُصبح مُضاعفاً، عندما يكون مرتبطاً بمفاهيم القداسة الدينية. والسبب الرئيسي في ذلك، هو أن جانباً مهماً من المعتقدات والقيم الدينية، يدعو الإنسان إلى التسليم والإيمان؛ وهو من الجوانب الطبيعية والمفهومة في الثقافة الدينية. ولكن الأزمة الكامنة فيه، تتكشَّف من خلال المتطلبات العصرية، تلك التي تساهم بها طبيعة الحياة الحديثة، وما تشملها من ارتباطات علميةٍ مختلفة؛ والتي تطالبنا بها حياتنا اليوم، عبر معاني الارتقاء والتحديث، في الاتجاهات والقيم الإيجابية.

المرأة في الحياة أبعد من النصف الآخر، إنها الجزء المنسي من ثقافتنا وحياتنا. هذا ما أكدت عليه المحامية في مقالها، وهي تحاول تسليط الضوء على أحوال المرأة البحرينية في المحاكم الجعفرية، والتي نقرأها من خلال الكلمات التالية: “بعد أن آلمني صراخ النساء في قاعات المحاكم، والذي شهدته بكل يوم، بل وبكل لحظة، منذ أن انخرطت في عمل المحاماة الذي قارب على عشر سنوات؛ والذي استشعرت بأنني مهما حاولت تغطيته، لن أستطيع بأي حالٍ من الأحوال، فالمشكلة لم تقتصر على سنوات عملي بالمهنة، بل هي مشكلةٌ سابقة، لها تداعياتها وأبعادها، والتي تحكي بكل جزءٍ فيها مظلومية المرأة بالقضاء الشرعي الجعفري، بحجة تطبيق الشرع وباسم الدين من القضاة المعممين”.

وتضيف أيضاً: “من بين أسوأ القصص التي تواردت على مسامعي، من المتقاضيات اللاتي يرفضن بيان شخصياتهن أو حتى تقديم شكاوى للجهات المعنية، رغم محاولاتي الكثيرة معهن، هي المساومة التي يحيكها أحد القضاة في الزواج من المتقاضية، بعد أن يطلقها بشكلٍ ميسر من زوجها، وإلا فإن حق تقدير الضرر لديه، وبالتالي فإن تقديره لن يكون في صالحها. أيُّ فسادٍ في القضاء هذا ؟! وأيُّ استخدامٍ لشرع الله ؟! وأيُّ نفسٍ مريضةٌ تلك ؟! نعم، ذلك التصرف هو تصرفٌ شخصي، لا علاقة له بالدين أو بالشرع، ولا علاقة له بالقضاء الشرعي وسموه بأي شكلٍ من الأشكال؛ إلا أنه يمس جوهر التطبيق وبالتالي فإننا لا نستطيع فصله عنه”.


إن الذي يجري على المرأة في مجتمعاتنا، يدعونا للتساؤل من جديد، عن ثقافة العدالة الغائبة من حياتنا، والتي قامت بتأكيدها سطور هذا المقال. وهي التي تدفعنا أيضاً، أن نتساءل عن مكانة الاحترام وتحمُّل المسؤولية في هذا المجتمع؛ عندما تتمُّ كتابة مقالٍ بهذه الأهمية والخطورة، ويُصبِحُ بعدها عابراً، كأنَّ شيئاً لم يكن..؟!

المعتقدات الجامدة في الثقافة الاجتماعية، تتحمل دوراً كبيراً في استمرارية هذه الأزمة؛ من خلال النظرة التقليدية للمرأة. هذه النظرة، التي ترفضها قيم العدالة والمساواة، عبر مناهضة هذه المفاهيم والتشريعات، والتي يستثمرها الفاسدون في منظومة القضاء.

               
إن هذه الأزمة لم تنس أيضاً الاضاءة على الانقسام السياسي الموجود حول القضايا العامة، من خلال أهلية القضاة والمنتمين لهذه المحاكم؛ حيث يعتبرهم البعض، أنهم محسوبون على الجانب الرسمي، أكثر منه من الجانب الاجتماعي، برموزه المذهبية والدينية. وأن هنالك نماذج نزيهة وعادلة، من القضاة ورجال الدين، لو تمَّ اعطاؤهم الفرصة – بحسب بعض الآراء – لكان الحال أفضل من الذي كان. وهنا نصل من جديد، إلى التقييمات الخاطئة في المجتمع، وهي أن بيئة الاستغلال لا زالت ثابتة، وأن الخلل الحقيقي يكمن في تراجع الرقابة والمحاسبة، الحقيقية والصارمة، على منظومة القضاء، من خلال الجهات المختلفة، القانونية والإدارية، والتي يتمُّ تعيينها وفق مقاييس الكفاءة، ومن الرجال والسيّدات، من أصحاب النزاهة والاحترام.

إن القيم الحقيقية للعدالة، لا تعترف بالتمييز بين الرجل والمرأة، ولكن هذا التمييز، يعترف به الموروث الثقافي الخاطئ في هذه المجتمعات. هذه القيم التي أثبتت، بأن المرأة تتقدّم بها على الرجل في مجتمعاتنا العربية. وهذا الأمر يزيدها فخراً واحتراماً لنفسها، وشرفٌ للرجال أن يتعلموه منها في هذه الحياة.


من أجل الخير والشرف، هي صرخة العدالة الغائبة عن حياتنا. هي دروب الجدارة الحقيقية التي تدعونا دوماً لتمثيل القيم العليا، من خلال قيم العدالة ومعاني الخير العام. تلك الدروب التي يجب أن ننتمي لها من صميم قلوبنا وعقولنا، احتراماً عظيماً لوجودنا وإنسانيتنا.