لعنة الطائفية

0
53

من يتابع ما يكتب من تحليلات حول الأزمة السياسية العامة التي تحيق بالمجتمعات العربية يكاد لا يجد مصطلحا أكثر استخداما من مصطلح الطائفية. وبينما ينظر البعض للطائفية والعشائرية بوصفهما عاملين أساسيين في تكوين الهوية السياسية في المجتمعات العربية، ويعزو لهما مفاعيل استثنائية على تطور النظم السياسية والقيم الاجتماعية، يرى فيهما البعض الآخر ثمرة تلاعب القوى الأجنبية وتجسيدا إرادتها السرية والعلنية في تقسيم البلدان العربية وتفكيك الدول إلى دويلات غير قابلة للحياة. وقد جعلت أغلب الحركات الوطنية التي نشأت في بداية القرن العشرين من كفاح ضد الطائفية والعشائرية شعاراً رئيسياً من شعاراتها ونظرت بعداء شديد لأي شكل من أشكال التعبيرات الطائفية.

في وقتنا الراهن كثيراً ما يركز المحللون على الإنقسام الطائفي لتفسير الأزمة الطاحنة في مساعيها لإقامة نظم ديمقراطية أو حتى تتجنب مخاطر الحروب الأهلية. ثمة رأي للمفكر برهان غليون تحدّث فيه عن لعنة الطائفية في المجتمعات العربية، وملخص هذا الرأي: لا يزال الكفاح ضد الطائفية يشكّل محور الأفكار التحررية التى تنادي بها الحركات القومية واليسارية التي ترى في إستمرار وجودها عائقاً رئيسياً أمام تطور الولاءات الوطنية. ويًقدّم الوضع في لبنان والعراق واليمن والنزعات  العنيفة التي شهدتها هذه المجتمعات ومجتمعات عربية عديدة أخرى في نظرها نماذج حية للدور السلبي الذي تلعبه الطائفية في قطع الطريق على نشوء الدولة القومية وفي التمكين للاحتلال وسحب البساط من تحت أقدام الحركة الوطنية وفشل التوجهات الديمقراطية.

إذن لقد تحولت الطائفية في اللغة السياسية التقدمية العربية إلى لعنة تاريخية وعاهة مجتمعية لا يعرف أحد كيف يمكن احتواء تأثيراتها السلبية ولا التخلص منها وأصبح الخوف من تفجيراتها عقبة أمام تطور المنافسة السياسية نفسها. ولايعادل الكره الذي يتراكم ضدها سوى الخوف من التأمل الموضوعي فيها وفي أسباب بقائها وانتشارها، ولذلك قر السلوك العربي على نوع من الشيزوفرينيا السياسية (الاضطراب النفسي). ففي الوقت الذي لا يكف فيه الفرد عن إدانة الطائفية والتبرؤ من شرورها، يجد نفسه مدفوعا بإرادته او أحيانا من دون إرادة ليكون ضحية رهانات وتلاعبات وحسابات طائفية لا حدود لها.

يخلق الحديث المتكرر عن الطائفية وعياً شقياً لدى المجتمعات العربية التى تشعر بأنها ضحية آلية عمياء جبارة تفرض عليها الإنقسام بين عصبيات متنافرة وتغلق أمامها أبواب المشاريع الديمقراطية والوطنية. وبقدر ما يفقد هذا الشعور الثقة المتبادلة بين أبناء الطوائف المختلفة التي تتبارى في إتهام بعضها البعض بإخفاء النوايا والرهانات الطائفية يزرع الشك واليأس عند المجتمع بأكمله في إمكانية التعايش داخل الوطن الواحد. بل في إمكانية بناء مثل هذا الوطن الذي يفترض التضامن والتعاون والتكافل بين جميع أفراده بقدر ما يجمعهم تحت سقف واحد ويفرض عليهم مصيرا مشتركا.

 والواقع أن التركيز على الطائفية والبنيات العشائرية والقبلية في البلدان العربية لا يعكس إدراكاً لمخاطر حقيقية وحتمية بقدر ما يعكس الكسل والبؤس اللذين اتسم بهما الفكر القومي والوطني المحلي الذي اتجه في سعيه لإقامة دولة وطنية حديثة وإضفاء المشروعية السياسية عليها إلى التركيز على مسألة الهوية والتجانس والاندماج بدل بناء مفهوم المواطنية والتأكيد على واجب الدولة الحديثة في تأمين شروط الممارسة القانونية لها، وبالتالي تأمين حرية أبنائها ومساواتهم. فقد سعت الدولة المحلية إلى التعويض عن غياب المواطنية في مشروعها، أي عن غياب مشروع الدولة الوطنية الحديثة. وكانت النتيجة  تضخيم الحديث عن الهوية والانتماءات  الثقافية والتاريخية الأحادية وتوليد نزعة انصهارية صماء تتطابق مع مفهوم العصبية الطبيعية أكثر مما تعبر عن نشؤ فكرة وطنية وشخصية سياسية حقيقية.

وهكذا أصبح التعدد الطائفي الذي ينبغي أن ينظر إليه على أنه ثروة وطنية بدل أن يعاش كعاهة مجتمعية يبدو وكأنه نقمة إلهية. وأصبح الوضع الطبيعي الذي عرفته المجتمعات منذ قرون وبنت من حوله نظمها الأخلاقية الرئيسية بما تعبر عنه من قيم التعايش والتسامح التاريخية التي ميّزت المجتمعات العربية والإسلامية، يظهر وكأنه وضع نشاز يميز المجتمعات العربية ويفصلها عن المجتمعات الأخرى الطبيعية ويحطّ من قدرها وقيمتها الجوهرية.

 والواقع ليس تعدد الطوائف ولا إستمرار البنيات العشائرية هو السبب في تخلف بنية الدولة الوطنية العربية ولا هو المسؤول عن تعثر مشاريع الاندماج الوطني وتقدم مشاريع الديمقراطية. ولا يشكل كلاهما أي لعنة أبدية أو تاريخية. فجميع المجتمعات مكونة من جماعات متعددة ويمكن تخفيضها جميعا إلى مجموعة لا نهائية من الأقليات الثقافية والدينية والمهنية والجنسانية والحضرية والريفية وغيرها. والمجتمعات الصناعية المتقدمة أكثر تعددية اليوم طائفياً وعرقياً من المجتمعات العربية.

وما تتميز به مجتمعات الصين والهند وغيرها من المجتمعات الآسيوية عموما يفوق بما لا يقاس ما تعرفه المجتمعات العربية التي تبدو في هذا المنظور مجتمعات شديدة التجانس والأحادية الثقافية. وهذا التعدد الواسع في المجتمعات الآسيوية يعكس ما هو شائع، عن درجة الازدهار الحضاري الذي عرفته المجتمعات في الماضي. والذي يدفع إلى التنمية التعددية بقدر ما تشكل الحضارة قوة جذب للجماعات ومايقدّمه من فرص لنمو قيم التسامح والتواصل بين الثقافات وما تنميه من حرية فردية وجمعية تتيح نشوء الهويات المتميزة وتدفع إلى التغاير بين مجموعات الرأي والثقافة. واذا كان لوجود أغلبية ثقافية أو دينية دور كبير في ظل خلق شعور الاستقرار والاستمرارية والثبات عبر التاريخ لدى المجتمعات فدور الأقليات العابرة للمجتمعات والثقافات لا بديل عنه في تحقيق التفاعل الإنساني كناقل   للمكتسبات التقنية  والعلمية والفكرية عبر الحدود والبلدان والحضارات.

لقد كانت الطائفية دائمآ موجودة في المجتمعات العربية وستظل موجودة فى المستقبل وهي موجودة أيضا في بلدان عدة تعيش في ظل نظم ديمقراطية. وليست هي التي تشكل العقبة أمام قضية   الديمقراطية. إنها تتحول إلى  مشكلة  عندما تصبح الإطار الوحيد للتضامن بين الأفراد ويتغلب الإنتماء للطائفة والعشيرة على الإنتماء للجماعة الوطنية. ولا يحصل ذلك إلا عندما ينهار إطار التضامن الوطني الذي يجمع الأفراد على صعيد أعلى وأشمل وتزول فعالية الرابطة الوطنية، وهو مصادرة فريق واحد للدولة والسلطة الوطنية ووضعهما في خدمة مصالحه الخاصة، وهكذا تكفّ الدولة أن تلعب دور الحاضنة العامة لجميع الأفراد بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والطائفية.

ولذلك يكفي أن تعيد إلى الدولة طابعها الوطني حتى يتراجع الإنتماء الطائفي إلى الدرجة الثانية ولا يصبح هناك تناقض عدائي بين الرابطة الوطنية والرابطة الطائفية والاثنية. والمقصود أن التركيز الداعم والمستمر في تحليل الأزمة الوطنية على التعددية الطائفية والقومية وتحميلها مسؤولية فشل النخب العربية الحديثة الثقافية والسياسية في بناء أطر وطنية حقيقية يهدفان إلى التغطية على القضايا الرئيسية وتبرير الهرب من مواجهة المسؤوليات التاريخية وما ينطوي عليه من رفض النخبة السياسية المراجعة النظرية والعملية للأفكار والسياسات والإستراتيجيات التي أودت بمشروعات بناء الدولة الوطنية والقومية العربية. وبالعكس ينبغي أن يصب التركيز على عملية تدمير الدولة وتحويلها إلى أداة لخدمة المصالح الخاصة، لأن إسترجاع فكرة الدولة وموقعها في الحياة الوطنية هو السبيل للخروج من الطائفية المرتبطة به في الوقت نفسه.

 باختصار، إن التعددية بكل جوهرها وأشكالها ليست خطأ تاريخيا ولابنية نشاز، ولكنها الأمر الطبيعي والشائع في أي مجتمع متمدن لا يمكن أن يخفض منطق انتظامه إلى مستوى الأسرة والعشيرة والطائفة الواحدة. وهي لا تنتج طائفية سياسية بالضرورة وليست هي ألتي تفسر ظهورها. إن المشكلة تبدأ عندما يوضع الإنتماء الخاص الطائفي وغير الطائفي محل الإنتماء الوطني العام أو يتقدم عليه، والمطلوب عندئذ كيف ولماذا يتقدم مثل هذا الولاء الخاص في هذه الفترة او تلك وفي هذا المجتمع أو ذاك على الولاء الوطني العام؟

About the author

Author profile

كاتب بحريني وعضو التقدمي